إيفيلين شاكر.. حولت «محنة» ابنها المعاق إلى جمعية للدفاع عن حقوق أقرانه
الإعاقة الذهنية هى أقسى توصيف يمكن أن تتلقاه أم لحالة ابنها الذى تأخر نموه، تشعر وقتها كما لو كانت ستظل بقية عمرها تحرث أرضاً بوراً لا تأتى ثماراً أبدا.. فلا تتوقع يوماً أن يكون لها سند فى الحياة يتحمل مسؤولياتها أو حتى مسؤولية نفسه، ويتضاعف الشعور بالألم نتيجة النظرة القاسية التى يوجهها المجتمع للمعاق ذهنياً وللأسرة التى تقع أسيرة «وصمة عار» لا تمحى إلا بمحاولات إخفاء المعاق عن الأنظار.
تامر طفل فى الثامنة والأربعين من عمره، لا يبدو على مظهره أى من علامات الإعاقة الذهنية، يتحدث بعض كلمات اللغة الإنجليزية، ويفهم جيداً اللغة العربية، استقبل «المصرى اليوم» بابتسامة ساحرة، مردداً بعض عبارات الترحيب، أما الأم فهى إيفيلين شاكر أم من طراز خاص، استطاعت أن تضرب عرض الحائط بكل الموروثات الخاطئة المتعلقة بالمعاق ذهنيا، وأن توجه مشاعر الأمومة بقوة وذكاء لدفع ابنها المعاق ذهنياً إلى الأمام، بل تؤسس جمعية للدفاع عن حق المعاق ذهنياً فى حياة آدمية.
«إعاقة ذهنية شديدة ناتجة عن تلف دماغى ناتج عن نقص أكسجين أثناء الولادة».. قالت إيفيلين شاكر متذكرة الجملة التى صمت أذنيها وشلتها عن التفكير، وأظلمت الدنيا أمام عينيها، فانطبقت جدران غرفتها وكأن جبلاً وقع على كتفيها.. أفقدتها الصدمة توازنها لعدة شهور قبل أن تستعيد قوتها وتبدأ رحلة كفاح لتأهيل ابنها تامر الذى لم يكن يتجاوز وقتها الثلاث سنوات، بدأت فى التردد على مراكز التأهيل فى الخارج بحكم عمل زوجها فى الخارجية.
مراحل طويلة من التأهيل لم تستطع إيفيلين اجتيازها إلا بمساعدة أشخاص عاشوا نفس تجربتها، ومدوا لها يد المساعدة وساندوها عندما لمسوا قوة إرادتها وتفاؤلها لتتعلم أن الناس لا تمد يد المساعدة إلا للشخص المكافح المتفائل شديد الإيمان، بينما تنفر من المكتئب كثير الشكوى.
«عمر ما حد اتكلم عن المعاق نفسه كإنسان ولديه مشاعر، وإن كان لا يستطيع التعبير عن نفسه، فالكل يتحسر على حال الأبوين اللذين أنجبا طفلاً معاقاً».. قالت إيفيلين مؤكدة ضرورة تغيير النظرة السلبية للأسرة والنظر بعين الإنسانية إلى المعاق واحتياجه إلى التأهيل، حتى يتمكن من الاعتماد على نفسه مستقبلا، ولا يتحول إلى عبء على الآخرين.
فطنت إيفلين مبكرا أن استقلالية ابنها واعتماده على نفسه شىء لابد منه، فأكبر خطأ تقع فيه أسر المعاقين هو عدم تأهيل أطفالهم للاعتماد على أنفسهم، وتوصلت إلى أن إقناع أم بتعليم ابنها الاستقلالية هو من أصعب الأمور، فحبها له وعدم اقتناعها بقدراته الخفية والاستسهال يجعلها تفضل أن تفعل له كل شىء بنفسها، وأوضحت أن الأم التى تقوم بكل شىء بدلا من ابنها، سيأتى اليوم الذى تعجز فيه عن ذلك فتتركه عبئاً على الآخرين.
واليوم تحصد ايفيلين ثمار الاستقلالية التى زرعتها فى تامر، فخلال أيام الإجازة التى يقضيها فى مصر، تستيقظ من نومها لتفاجأ بابنها وقد أعد لها وجبة الإفطار، حرصا منه على الاعتناء بها فى مرضها.
خلال السنوات الأولى، كانت إيفلين تصطدم بآراء الإخصائيين الذين كانوا يرددون أنه لن يستطيع الحديث إلا فى عمر العاشرة وبكلمات قليلة وأن عليه أن يتعلم لغة واحدة، فكانت الإنجليزية هى الأنسب، حيث كان تأهيله فى الخارج.
كان عليها أن تمحو من تفكيرها أن يحصل ابنها على شهادات دراسية، لذلك ركزت على التأهيل المهنى إلا أنه بعد سنوات طويلة ومع دخوله فى العقد الرابع من العمر، عرض عليه إتمام دراسته الجامعية كطالب متفرغ على مدار ٣ سنوات جامعية يسبقها دورة تمكنه من التكيف مع الجامعة والتعامل بشكل طبيعى داخل الحرم الجامعى كأى طالب عادٍ.
«فرحتى ما تتوصفش وأنا شايفاه شايل الكتب وداخل الجامعة».. قالت إيفيلين موضحة أن تلك الجامعة تضم أسوياء ومعاقين فى مكان واحد، حيث يحضر كل منهما المحاضرات التى تخصه كنوع من الدمج فى المجتمع.
ورغم فرحتها الشديدة بابنها وفخرها به فإنها لا تستطيع إنكار حزنها، بسبب بعده عنها وإقامته فى إنجلترا بعيداً عنها، ولكنها الطريقة الوحيدة التى تضمن له بها حياة آدمية كريمة فى جو عائلى يضم مجموعة من المعاقين والمشرفين فى أحد البيوت التى أنشئت خصيصا لرعايتهم.
«أنا عملت اللى عليه واديتله فرصة إنه يعيش عيشة كريمة، أنا خايفة عليه بعد ما أموت لكن بقول ربنا يحميه».. قالت إيفيلين موضحة أنها تتمنى أن تنشئ فى مصر دور إقامة دائمة توفر للمعاق ذهنيا فرصة للحياة فى جو عائلى بعد وفاة الوالدين مع تأكيدها أن تلك الدور لن تنشأ إلا بالجهود الذاتية.
كما نبهت أن للتربية مهمة كبيرة فى الناحية الجنسية، حيث يتعود المعاقين منذ الصغر على عدم استخدام اليدين فى التعامل وتربية الأولاد والبنات على التصرف باحترام مع وجود رقابة وشغل أوقاتهم، مشيرة إلى أنه لا يسمح بالزواج إلا فى حالات الإعاقة البسيطة.
«فى البداية، اعتبرت إنجابى لطفل معاق محنة، وكنت أرى المستقبل مخيف لكن عمرى ما أتمنيت إنى أفقده، ومع مرور السنوات أدركت كم هو منحة من الله».. كلمات إيفيلين الأخيرة التى تدعم أسر المعاقين للتفكير فى أبنائهم باعتبارهم منحة من السماء.