المعاشرة الزوجية - غياب الإحساس لا يعني غياب الحواس
أن الحديث عن موضوع المعاشرة الزوجية بعد تعرض الإنسان لإصابة في العمود الفقري عادة ما يتم تناوله بتحفظ وإيجاز لذلك يتفشى الكثير من سوء الفهم والجهل عن هذا الجانب الهام من حياة فئة المعوقين حركياًً.
ويعتبر موضوع القدرة على الاتصال والإنجاب، سواء للرجال أو النساء، من أهم الأمور التي يشعر الإنسان بفداحة فقدها عندما يتعرض لحادث يفقده الإحساس في مواضع كثيرة من جسمه، وخاصة تلك المرتبطة مباشرة بالجهاز التناسلي.
وقبل الاسترسال، يجب التأكيد هنا انه لا صحة للاعتقاد أن معظم المعوقين مصابون بعجز أو غير قادرين على الإنجاب. إذ أن اختلاف موضع الإصابة في الظهر يحدد مدى شدة الضرر الذي يصيب الجهاز التناسلي ومن ثم القدرة على ممارسة الحب.
وثمة ثوابت لا يمكن تجاهلها وأنا أتتطرق إلى موضوع مثل هذا ترددت كثيراً قبل الخوض فيه. فأنا لست طبيباً، ولكن يشفع لي أنني قرأت كثيراً في هذا الموضوع وخرجت بمحصلة من المعلومات عززها اطلاعي على تجارب خاصة ويمكن إيجازها في النقاط التالية:
• أن وجود إصابة في العمود الفقري لا تعني غياب الرغبة في المعاشرة الزوجية
• أن فقد الحركة لا يعني عجز الإنسان عن إمتاع الشريك والاستمتاع به
• أن غياب الإحساس لا يعني غياب الحواس
• أن غياب القدرة على المعاشرة كسابق عهدها لا يعني غياب الرغبة لممارسة الحبالعلاقة بين الرجل والمرأة وممارسة الحب في ظني هي اكثر من مجرد اتصال جسدي "عابر" يبدأ وينتهي عند حدود سرير الزوجية! ودعونا من حرفية المعنى، فعابر لا تعني طبيعة العلاقة بين شخصين وإنما هي توصيف للحدث وطريقة ممارسته حتى وان كان بين زوجين مضى على زواجهما عقود. فالمعاشرة تفاعل حسي وروحي معاً.. ولا غنى لواحد عن الآخر إلا إذا كان القصد هو إشباع الحاجة الجسدية ليس إلا!
ولقد أثبتت التجارب والأبحاث أن ممارسة الحب يمكن أن تكون حميمة أو اكثر رضى لدى المعوقين عن كونها مجرد شبق شهواني يحقق للرجل ـ وهي دائماً الحالة هنا ـ الإشباع الجسدي فقط.
وتظهر الإحصائيات أن المعوَقين بإصابات العمود الفقري يمكنهم الاستمتاع بالمعاشرة وحياة زوجية مرضية. هذه الحميمة والمتعة تتطلب، على كل حال، حواراً صريحاً يفتح أمام الزوجين إمكانيات تتيح لكل واحد منهما اكتشاف مواضع بكر لم تجرب في عجالة أسلوب "الكر والفر" الذي يعتمده الكثير من الرجال!
ويعترف كثير من المعوقين حركياً انهم تمكنوا من العثور على مكامن المتعة من خلال استكشاف مناطق أخرى جديدة في أجسادهم وأجساد شركائهم.. مناطق كانت مجهولة ـ أو قل مهجورة سابقاً!
إذا كان المصاب في العمود الفقري لا يشعر بأيَ إحساس اسفل منطقة الإصابة، فكيف يستطيع الاستمتاع بأحاسيس ممارسة الحب؟سؤال يتردد كثيراً بين الناس.. بعضهم بدافع الفضول وآخرون بدافع "العلم بالشيء". والجواب هو أن الإحساس جزء، لكنه ليس الجزء الوحيد، في عملية الاتصال وممارسة الحب وان كان هو العنصر الحاسم للإشباع! لكن جسم الإنسان يزخر بأجزاء أخرى ـ تلك التي تعلو مستوى الإصابة في الظهر ـ يستطيع الطرفان تسخيرها للاستمتاع بأحاسيس المعاشرة الكاملة. أن استخدام هذه الأجزاء بمساعدة اكبر جزء مسئول عن أحداث هذه الإثارة ـ أعني الدماغ ـ كفيل بإثراء ممارسة الحب والوصول بها إلى درجة تشبع الطرفين!
لا شك أن رغبة الإنسان واحتياجاته لممارسة الحب بحميمة لا تختلف بعد الإصابة عما كانت عليه قبلها، لكنها تحتاج الآن لبعض التخطيط ولم تعد ممكنة بشكل عفوي كما كان الحال.
وعلى المستوى الاجتماعي فان منظر الشخص وهو على الكرسي المتحرك ليس بالتأكيد جذاباً ولا يعطي انطباع الإعجاب الذي عادة ما يخلق الالفة بين اثنين يرى كل واحد منهما في الآخر شريكا محتملا للزواج وممارسة الحب، لذلك يواجه المعوقون صعوبة في إيجاد الشريكة/الشريك التي سترضى به. وإذا كانت عادات مجتمعاتنا العربية لا تقر التعارف قبل الزواج إلا أنها تقره بقصد الزواج، وبالتالي فإن الحديث عن هذا الموضوع لا يجب أن يعد تجاوزاً للأعراف الاجتماعية والقيم الدينية. وبالتالي فان برامج توعية المجتمع بحقوق المعوقين لا بد أن تشتمل على موضوع زواج المعوقين الذين يملكون مقومات الحياة الزوجية.
وهذه حالة إنسانية ودروسها تستفاد وتطوع لتناسب خصائص المجتمعات المختلفة والمتباينة في ثقافاتها ودياناتها وتعاطيها مع هذا الموضوع "الحساس".
ولعل المفاهيم المقولبة حول عجز المعوقين عن العناية بالأطفال وتربيتهم التربية الحسنة على غرار أي أبوين صالحين ساهمت في تردد المجتمع بشأن فكرة زواج المعوَقين. بيد أن الأبحاث والدراسات الاجتماعية، وقبل هذا وذلك التجارب الحياتية لكثير من المعاقين، أثبتت أن "الإصابة في العمود الفقري" لا تحول دون الإنجاب أو اكتساب المهارات الأبوية للاعتناء بالطفل وتربيته. صحيح أن بعض المعوقين قد تحول شدة إصابتهم دون حمل الطفل والعناية به جسديا كإطعامه وتغسيله، لكن ذلك يمكن التغلب عليه، خاصة في المجتمعات العربية، من خلال مساعدة الأهل والأقارب.
موضوع ممارسة الحب والزواج والإنجاب طويل ومتشعب ولا يمكن الحديث عنه بعجالة متحفظة. واعتذر هنا عن الاستطراد لأن غايتي من هذا النص ليس وضع دليل يرشد من هم في وضعي على تجاوز معوقات الإعاقة، وأنا لست مؤهلا للتصدي لهذا الموضوع وممارسة ذلك الدور. وآمل أن تكون أقسام إصابات العمود الفقري في المستشفيات قادرة على تقديم الاستشارات الطبية المناسبة التي تعنى بشئون المعوقين!
وكما يقال الشيء بالشي يذكر. فقد تعرفت في المرة الأخيرة التي سافرت فيها للعلاج من مشكلة صحية ترتبط بالجهاز البولي على شاب من دولة خليجية اسمه مظفر لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو متزوج ولديه خمسة من الأولاد. وينحدر هذا الشاب من قبيلة بدوية تحظى في بلاده بنفوذ قوي على المستويين الرسمي والشعبي، ويتولى إدارة عمل أسرته الذي يتنوع ما بين تربية الجمال والمراكز التجارية.
الغاية من المدخل السابق هو أن أبين أن حياة مظفر كانت مليئة بالنشاط الأسرى والاجتماعي والتجاري، وفجأة وجد نفسه معوقاً غير قادر على دفع كرسيه المتحرك.
عندما وصل مظفر إلى المستشفى رفض أن يخرج من حجرته أو أن يجلس على الكرسي المتحرك، فهو، كما سمعت من الممرضات، يظن أن إصابته ليست بالغة وانه سيعود قريباً يمشي على رجليه! ومن ثم فهو ليس بحاجة للكرسي.
رفض مظفر لم يقتصر على الكرسي المتحرك وحسب وإنما شمل كل شيء له علاقة بالشلل والإعاقة ومنها العلاج الطبيعي.
كان هم مظفر الأساسي هو أن يستعيد عافيته "الذكورية" أولاً. وبعد فترة تخللتها محاولات إقناع من طبيبه ووعد ببذل قصارى جهده للتركيز على ذلك الجانب بالذات، وذلك مرهون بتعاونه مع أخصائيي العلاج الطبيعي إذا كان حقاً يريد الشفاء السريع، جاء مظفر إلى قاعة العلاج الطبيعي بعد محاولات أخرى مضنية لإقناعه باستخدام الكرسي المتحرك!
في صالة العلاج الطبيعي لم يكن التعامل مع مظفر بالأمر الهين، فهو غير مقتنع أن إصابته تشبه إصابات المرضى الآخرين، ويبدو أن ثمة من أقنعه قبل أن يأتي إلى هذا المستشفى أن حالته بسيطة وقابلة للشفاء!
برامج العلاج الطبيعي تتضمن توقيف المريض على طاولة بشد رجليه وجزء من نصف العلوي بالسيور والأربطة بطريقة تبدو لمن يراها من بعيد مهينة لكرامة الرجل.. خاصة إذا كان بدوياً كمظفر! والغاية من هذا النوع من جلسات العلاج هو تنشيط الدورة الدموية في الأجزاء المشلولة من الجسم وتقوية العظام.
كانت أخصائية العلاج الطبيعي التي تولت علاجه شابة مجتهدة ومخلصة في عملها، وكانت تجد في المرضى الصعبين من نوع مظفر تحدياً، لكن الأمر اختلف معه !
فقد استعصى إقناع مظفر بالوقوف على الطاولة، وبعد اخذ ورد أصر على انه لن يقف على الطاولة إلا إذا قدم له سبب مقنع يستحق التنازل عن بعض من كرامته. اقترحت على أخصائية العلاج الطبيعي أن تذكر له أن الوقوف يفيد، إلى جانب ما ذكرته سابقاً، في تسريع استعادة نشاطه الذكوري.. لعل وعسى!
وبالفعل حدث ما توقعته! فقد وافق مظفر على الوقوف، ليس ذلك وحسب، بل واظب على جلسات العلاج الطبيعي بحماس أثار دهشة الجميع.
موقف آخر ظريف مع مظفر: كنا جالسين في أحد ممرات المستشفى، وأخذنا الحديث إلى أمور خاصة منها هاجس مظفر الأساسي. فسألته مازحا إذا أعطي الخيار بين أن يظل طوال حياته معوقاً على الكرسي المتحرك ولكنه يتمتع بصلاحية ذكورية كاملة أو أن يستعيد صحته كما كانت قبل الحادثة ولكنها منقوصة تلك الصلاحية؟
لم أرى في حياتي إنسانا يقف حائرا بين خيارين. فقد ظل مظفر صامتا يفكر في الأمر ويقلب خياراته حتى ظهر أخوه سعفان من زاوية الممر. فصرخ مستغيثاً لمساعدته في تحديد أي الخيارين افضل!