قال لي جدي وهو يمسح نظارته الطبية :
لقد أصبحت رجلا يا خالد ...
التمعت عيناي بالفرح، وامتلأ صدري بالزهو،.وقلت بعد تفكير:
نعم يا جدي فالأيام تمضي سريعا..
وضع يده على كتفي ونظر إلي نظرة حانية وقال :
أنت تسابق الأيام بقامتك وذكائك ..
اقتربت منه وقبلت رأسه وقلت :
ما أسعدني بك يا أبي!
عملت كلمتي في قلبه عمل السحر...
حدق ببصره إلى لا شيء، وأخذ نفسا عميقا، ولاذ بصمت طويل ..
شعرت بشيء من الارتباك .. وجلست قبالته أنظر إلى وجهه المهموم .. أحاول قراءة أفكاره الثائرة ..
سبحان الله ..!!
ما الذي غيره ؟!
مرت بي لحظات سريعة قاسية كدت فيها أختنق..!
إن سعادة جدي تعني لي الكثير .. فمنه عرفت طعم الأمان..ومنه شعرت بدفء الحنان.. وبه خطوت إلى الحياة ..
تنهد تنهدا طويلا.... وافتر ثغره عن ابتسامه فاترة .. والتفت إلي يتأملني .....
انفرجت همومي بانفراج أسارير وجهه ... واتسع المكان لي بعد أن كاد يهشم أضلاعي....
قلت له بهدوء: ما لك ؟
قال ياخالد :....
أنت ولدي .. وأحب الناس إلي.. وأنت أشد الناس شبها بأبيك رحمه الله ..
قلت له :
وهل كان حزنك لأنك تذكرت أبي؟
قال : نعم يابني ...
كان أبوك ولدا بارا طموحا ... وكنت أفاخر به أقاربي وأصدقائي...فهو مثال للرجل الجاد المثابر.. ..
عرف في الحي يمحافظته على صلاته وتمسكه بتعاليم دينه .. أحسب يابني أن المسجد بكاه حينما نعيته
لأهل الحي... كان ذلك بعد أن صليت الفجر من يوم الخميس........لن أنسى ذلك اليوم أبدا ....
هييه ....
لقد كانت أمانيّ في أبيك كبيرة ..وكنت أعقد عليه كل آمالي ....ولكنه رحل.وتركني وترك آمالي...
رضيت بالله ...
استرسل في حديثه قائلا :
لكم أتمنى يا بني أن تكون امتدادا لحياة أبيك .. تحمل اسمه بين الناس .. وتنشر ذكره الطيب
بينهم ...ومن يدري... فقد تتحقق أحلامي فيك..
كان يحدثني بحماس لم أعهده فيه ... أشعر الآن بحرارة خطابه يلامس شغاف قلبي .... وجهه
المتجعد المشرق يحكي لي تجارب السنين.. ويفشي لى عن معاناته التي يقاسيها من أجلنا ...حدقت في
وجهه أكثر ...... نظراته المنكسرة المتوسلة تبحث فيّ عن شيء مفقود .. تفتش في كياني عن جوهرة
مكنونة ... تغوص في أعماقي.... طوفت بفكري في تفاصيل حياتي العابثة ... بدأت أنبش في
فوضى أيامي.... في المدرسة .... في البيت .... في الشارع ..... مسكين ..... ما الذي يمكن أن يعثر
عليه بين هذه الفوضى ؟!
كيف لو علم بفشلي وانصرافي إلى اللهو في كل حياتي ...
مسكين ....
ولكن ..
ولكن لا تخف ..
..
لا تخف يا أبي....
سألون حياتي من جديد ... سأصنع من فشلي الذي لا تعلمه نجاحا تحقق به سعادتك ...
سأسافر على ظهر أمانيك إلى عالم النجاح ...وسأرسم البسمة على وجهك بإذن الله ..
تنحنح جدي وقال : هل تعدني ياخالد أن تحقق آمالي ..
قلت بحماس غير مصطنع :
نعم
أعدك يا أبي
أعدك..