أحمد ذكي جدا والأطباء متخلفون
انبثق الأمل من حديث مديرة المدرسة، فتوجه الوالدان إلى عيادة الإخصائي النفسي السريري الأمريكي نستر في مستشفى الملك فيصل التخصصي الذي يعمل في مجاله منذ 20 عاما، ونقلا له تفاصيل تشخيص الأطباء سابقا.
وتشرح أم أحمد تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم، «بعد لقائنا الإخصائي الأمريكي نستر وتبادل الحديث فيما يخص حالة ابني مع إعطائه فكرة مفصلة عن تشخيص الأطباء في المستشفيات السابقة، طلب منا المكوث في غرفة مقابلة لغرفته برفقة مساعدته من جنسية عربية، وخضع أحمد وقتها إلى عدد من الاختبارات والقياسات الطبية والسلوكية المتتالية التي استمرت ثلاث ساعات متواصلة، واستطاع وقتها كتابة ثلاثة أسطر إملاء وهو لم يتجاوز آنذاك السادسة من عمره».
وتستمر في حديثها «لم أكن أعلم أن نستر يراقبنا خطوة بخطوة من خلال حاجز زجاجي يرانا من خلاله ونحن لا نراه، فبعد أن انتهت الاختبارات خرج الإخصائي مصفقا وهو يقول: «الأطباء هم المتخلفون عقليا، أحمد ذكي ونسبة ذكاؤه 95 في المائة, لكنه مصاب بدرجة متوسطة من إعاقة التوحد».
في هذه اللحظات عذبة المشاعر فقط، اطمأن قلب أم أحمد ووالده، عندما تمكن الإخصائي نستر أخيرا من إبطال تشخيص الأطباء السابقين، وتصف الأم مشاعرها تلك اللحظة «لم تكن الفرحة تسعني عندما أكد الإخصائي ذكاء ابني، ليس ذلك فحسب، وإنما قال لنا مهنئا «أستغرب أن هناك أسرة في السعودية تعنى بتدريب وتمرين ابنها المصاب بالتوحد، حتى إنه سألنا عن طريقة تعاملنا له، وسبب وصوله إلى هذه الحالة المتقدمة من التعليم».
حصل على تقدير جيد جدا في الثانوية العامة.
نستر: لا تلحقوه بمدارس التربية الفكرية
وتابع الإخصائي الأمريكي «إن السكرتير الذي ينظم لي أموري كلها ويحجز تذاكر سفري إلى البلدان شخص توحدي عمره 70 عاما»، وأوصي الوالدين بشدة بعدم إلحاق أحمد بمدارس التربية الفكرية بتاتا، مهما سنواجه من ضغوط، «وبالفعل تلك الوصية كانت بالنسبة لي خريطة وجهتنا إلى الطريق السليم».
أصرت الأم ألا تسجل ابنها في مدارس أهلية في ذلك الوقت، متوقعة أن تقييم المدرسة لولدها سيبتعد كثيرا عن الدقة، لذلك قررت أن تدخله مدرسة ابتدائية حكومية، لكن عندما قدمت التقرير الصادر من مستشفى التخصصي لوزارة التربية والتعليم، اشترطت الوزارة قبوله بشرط اعتماد هذا التقرير من معهد التربية الفكرية.
وتفصل أم أحمد أحداث معاناة المرحلة الدراسية لابنها، «أخذنا على عاتقنا الاستماع حرفيا لنصيحة الإخصائي نستر, لكن وزارة التربية والتعليم أجبرتنا على أن نتوجه إلى معهد التربية الفكرية لتصديق التقرير، وبالفعل توجه والده إلى هناك, ولأن التقرير الطبي صادر من مستشفى الملك فيصل التخصصي، وافقوا على أن ندرس أحمد في مدارس حكومية تحتوي على فصول دمج دراسية، أي أنه يدرس مناهج مماثلة لمناهج التعليم العام, لكن في فصول الدمج».
المعلمون والطلاب كانوا عائقا آخر
لم تنته المعاناة عند حد معرفة الوالدين نوع مرض ابنهما وقبول الوزارة تدريسه في مدارس حكومية، لأن المعلمين والطلاب كانوا عائقا آخر، ومع أول يوم دراسي بدأت الاتصالات التي تحمل عديدا من الشكاوى تهل عليهما.
وأضافت «وردتنا من المدرسة عديد من الاتصالات التي تحمل عديدا من الشكاوى حول تصرفات أحمد، وكثرة خروجه من الفصل وتوجهه نحو الأماكن التي تثير اهتمامه كمراوح الشفط في دورات المياه أو الأجهزة التي تدور، لكن والده كان لهم بالمرصاد، وعلى الرغم من أنه كان يحاول أن يذهب بشكل مستمر إلى المدرسة لتفادي المشكلات، إلا أنه اضطر في يوم من الأيام تهديد معلم صفوف الدمج بتقديم شكوى عليه في الوزارة، بسبب عدم تحمله تصرفات أحمد على الرغم من أنه يتقاضى راتبا يفوق رواتب معلمي صفوف الأصحاء مقابل تحمله تصرفات المعوقين».
تفوق أحمد دراسيا وحصل على عديد من شهادات التقدير، ومع ذلك لم تهدأ الاتصالات الصادرة من المدرسة طوال ست سنوات, تطالب والديه بنقله من المدرسة، حتى وصل الأب إلى مرحلة أصبح يخرج من عمله ويذهب إلى المدرسة ليبقى في الممرات أمام فصل ابنه، وذلك لأن والده يتبع معه أسلوبا خاصا في التربية وتعديل السلوك، وأصبح أحمد يميل إلى الهدوء بشكل كبير حتى أن معلميه أصبحوا يطلبون منه الحضور يوميا حتى تنضبط حركته.
رسوماته دلتهم على طالب يضربه
تقول الأم إن أحمد كان مسالما جدا، وعلى الرغم من ذلك يتعرض للأذى والضرب من بعض زملائه في المدرسة، وكان يعبر عن هذه المعاناة من خلال رسومات يبدأ برسمها عند وصوله إلى المنزل.
وفي يوم من الأيام دخلت عليه في غرفته ووجدته يرسم شخصا ممتلئ البنية، وعندما سألته عن هذا الشخص ذكر لي أنه ضربه في ذلك اليوم، وحينما علم الوالد بهذا الأمر، أخذ هذه الرسمة وذهب بها إلى المدرسة، وطلب من المدير معاقبة هذا الولد وتأنيبه، لكن المدير والمعلم رفضا تدخل أبي أحمد في الشؤون الإدارية، لكن والده لم يلتفت لحديثهم وبدأ يبحث في الفصول الدراسية عن الشخص الذي رسمه ابنه، وبالفعل وجده وأنبه وطلب منه عدم الرجوع إلى إيذاء ابنه.
الانضباط السلوكي في المتوسطة
حينما وصل أحمد إلى المرحلة المتوسطة بدأ سلوكه ينضبط وبشكل ملحوظ، تقول والدته «بدأ والده بتدريبه على الصوم والذهاب إلى المسجد بانتظام واحترام وجوده فيه، وبعد مران استمر وقتا قصيرا، أصبح بعد ذلك لا يفوته فرض في المسجد، وبات أفضل من إخوته في هذا الأمر ويشعر بفرحة لقرب قدوم شهر رمضان، كما دربناه على احترام وتقدير من حوله وأن يعرف بنفسه دائما قبل أن يدخل إلى أي مجلس فيه نساء»، مشيرة إلى أنها كانت دائما تدعو الله أن يستطيع ابنها الالتزام بكل واجباته الدينية.
كان أحمد يحب كثيرا أن يعرف كل تفاصيل يومه وكان يسأل أمه بداية كل يوم عن جدول العائلة اليومي، وعن برنامجه بشكل خاص، ويتضجر كثيرا عندما يحدث شيء يفاجئه دون أن يكون لديه خبر.
تخصص قد يقتل طموحه
وتضيف الأم «بعد أن اجتاز المرحلة الثانوية بنسبة 89.9 في المائة، تقدم أحمد للالتحاق بجامعة الملك سعود لكنها لم تقبله، والسبب أن شهادة الثانوية مكتوب عليها (إدارة التربية الخاصة)، وخوفا من إعاقة التوحد لم يستطع أن يلتحق بالجامعة، وفي تلك الأثناء تعرفت الدكتورة ليلى العياضي أستاذ مشارك في قسم الفسيولوجيا في كلية الطب في جامعة الملك سعود ومديرة مركز التوحد على (أحمد) من خلال خبر نشر في جريدة آنذاك».
تقول الدكتورة ليلى «تعرفت على الشاب التوحدي أحمد من خلال خبر نشر في إحدى الصحف التي أشارت إلى أنه حصل في الثانوية العامة على نسبة 89.9 في المائة ولم تقبل جامعة الملك سعود انضمامه إليها، بسبب إعاقته التوحدية، فرفعت خطابا إلى مدير الجامعة، شرحت فيه حالة أحمد، فوافقت الجامعة بالفعل على قبوله في قسم الجغرافيا، لكن بعد التفكير وجدت أن هذا القسم من الممكن أن يقتل طموحه, خاصة أنه لا يتمتع بميول لتخصص الجغرافيا، وبذلك لن يستفيد منه, فكثير من الخريجين في القسم نفسه عاطلون عن العمل».
5 درجات حولته إلى «هادئ جدا»
واقترحت الدكتورة ليلى على والده أن يلحقه بدورات ودبلوم حاسب لتطويره ذاتيا، وبالفعل تكفل المركز بدفع تكاليفها، مبينة أن مركز التوحد سيوظفه بعد إنهاء دورتي الإنجليزي والتقنية اللتين يدرسهما الآن.
ولفتت مديرة مركز التوحد إلى أن الدبلوم الذي حصل عليه أحمد معتمد من أكبر المعاهد في المملكة، واختباراته تتميز بصعوبة ولا يتساوى مطلقا مع غيره من الدبلومات الوهمية أو غير المعتمدة، وكانت العياضي دائما تطلب من والد أحمد إحالة أي مشكلات تختص بالدراسة إليها، وبالفعل حدث تواصل بينها وبين مدير المعهد والمدربين لشرح بعض تصرفاته كتكراره كلامهم أثناء الشرح النابعة من محاولة فهم ما يقال له بتكرار الحديث.
وعندما تقدم الوالد لتسجيل ابنه في المعهد، تخوف المدربون من قبوله لكثرة حركته خوفا من أن يخرج من المعهد دون دراية منهم، لكنه عندما اجتاز الاختبار النهائي بتفوق في دورة إدخال البيانات، قرر مدير المعهد قبوله في دورة متقدمة في الشبكات وصيانة الحاسبات، وذلك لجدارته وتمتعه بدرجة ذكاء عالية.
يقول معدي القحطاني مدير المعهد عندما تقدم والد أحمد لتسجيله في المعهد توجسنا من قبوله لخوفنا من خروجه من المعهد دون دراية منا، لكن أحمد أثبت جدارته بالالتحاق بدورة (شبكات سيسكو)، مشيرا إلى أن الهدف من قبوله لم يكن ماديا مطلقا.
كان والد أحمد يحضر يوميا إلى المعهد لمدة ثمانية أشهر خلال الدورة الأولى (إدخال البيانات)، ويتنقل معه بين الصفوف الدراسية حتى يضبط حركة ابنه أثناء الشرح، لأنه كان يعاني حركة شديدة وقتها، والآن الوضع اختلف تماما، فالوالد أصبح يضع ابنه قبل بداية اليوم الدراسي في المعهد، ويأتي ليأخذه بعد انتهاء ساعات الدراسة.
يحكي مدير المعهد سبب هذا التغير عندما «طلبت من الأب توجيهي لطريقة التعامل السليمة مع أحمد، حتى نستطيع أن نتحكم في تصرفاته، وبالفعل دلني على طريقة محتواها النظر في عين أحمد أثناء الحديث معه حتى لا يتشتت انتباهه، وما إن اتبعت هذه الطريقة استطعت تغيير سلوكه 180 درجة، فأصبح شخصا هادئا تماما معتمدا على نفسه في كل أموره الحياتية خلال اليوم الدراسي».
واستطاع مدير المعهد من أن يضع خطا واضحا لتعامل المدربين مع أحمد أثناء الصفوف حتى يلتزم بالهدوء أثناء الشرح، وقال «وجهت المدربين والمدرسين في المعهد إلى تحفيز أحمد بخمس درجات مقابل التزامه بالهدوء وعدم الحركة، حيث إن حركته كانت تلفت انتباه زملائه الذين يعتقدون أنها حركات مفتعلة لإضحاكهم، وبالفعل نجحت هذه الطريقة وأصبح هادئا جدا، ومتابعا لكل تفاصيل الدرس، حتى أن كراسة الملاحظات الخاصة به أصبحت تلفت انتباه المعلمين لعدم نسيانه أي تفاصيل دراسية تذكر في الصف.
وأشار إلى أن حركاته أصبحت تميل كثيرا إلى حركات الأصحاء، فعلى سبيل المثال أصبح أحمد يتصل بوالده فور انتهاء الدروس ليأتي ويأخذه، مؤكدا مراقبته الدائمة لتصرفاته عن طريق كاميرات المراقبة الموجودة في غرفة الإدارة.
تعود الأم لتقول «على الرغم من صعوبة ما واجهتنا من عقبات ومشكلات منذ طفولة أحمد حتى وصل إلى مرحلة الشباب حاليا، إلا أن الفضل بعد الله يعود إلى والده الذي كان له دور كبير في تهذيب سلوكه، وكسر حاجز الخوف لديه تجاه كثير من الأشياء، فقد كان أحمد يخاف كثيرا السباحة لكن والده كسر ذلك الخوف عن طريق سحبه بشكل مفاجئ إلى المسبح، حتى أنه الآن أصبح يعشق السباحة، ويسأل عما إن كان هناك مسبح في الاستراحات التي نذهب إليها نهاية الأسبوع.
وأكدت أم أحمد أن مديرة مدرسة الروضة والإخصائي نستر أضاءا لهما الطريق، ولهما دور كبير فيما وصل إليه أحمد من التفوق، كما لم تنس دور الدكتورة ليلى العياضي الفاعل في إلحاق أحمد بالمعهد وتلقيه وعدا منها بتوظيفه حال انتهائه من دورتي الحاسب والإنجليزي.
المصدر صحيفة الاقتصادية الألكترونية