هل مرض التوحّد من سمات العبقرية؟
التوحّد Autism هو إحدى حالات الإعاقة التي تعطّل استيعاب المخ البشري للمعلومات وكيفية معالجتها، وتُفضي إلى حدوث مشكلات لدى الطفل في كيفية الاتصال بمن حوله، واضطرابات في اكتساب مهارات التعليم السلوكي والاجتماعي. يظهر داء التوحد خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، إلا أنّه يستمر مدى الحياة. وتقدر نسبة الإصابة بهذا الداء في الولايات المتحدة الأمريكية بنحو حالة من بين كل 500 شخص، ولا تتوافر إحصاءات وافية عن نسبة الإصابات في كثير من البلدان الأخرى.
وقد توصل العالم "سيمون بارون كوهين" Simon Baron-Cohen إلى أن داء التوحد، وتعذُر التواصل مع العالم الاجتماعي، يصيب الصبية الذكور بصفة أساسية دون الإناث (تصل النسبة المتوسطة إلى أربعة ذكور مقابل كل أنثى). ونظراً لأنّ الصبية أقل قدرة على التعاطف Empathizing الاجتماعي من الفتيات، فقد رأى بعض الباحثين إنّ التوحد صورة متطرفة يختص بها المخ الذكري المرتبط بهرمونات الذكورة. وقد دعا ذلك علماء النفس التطوريين، أي المشايعين لنظرية التطور، إلى التشكك في أنّ الكائن البشري يُطبق – بحكم الغريزة – نوعين مختلفين من العمليات العقلية لاستيعاب ما يدور حوله، يطبق في أحدهما علم النفس المجتمعي (الذي تميل النساء بطبعهنّ إليه)، وقوانين الفيزياء (التي عادة ما ينصب اهتمام الرجال عليها أكثر من النساء).
وتُعد الفيزياء مجرد جزء من مهارة أطلق عليها بارون كوهين "المنهجة"systemizing، وهي القدرة على تحليل العلاقات بين المدخلات والمخرجات في العالم الطبيعي والتقني والمجرد، بل وحتى العالم البشري – أي محاولة استيعاب كل من العلة والنتيجة، والمنظومة والقوانين. ويعتقد بارون كوهين أن لدى كل إنسان قدرتين عقليتين منفصلتين، وهما المنهجية والتعاطف. وهناك أشخاص يجيدون القدرتين، بينما هناك أناس آخرون يحسنون إحدى القدرتين ولا يجيدون الأخرى.
ولحالات التوحد الحادة علامات أخرى، أهمها صعوبة التعبير اللغوي، أما في حالات التوحّد الأقل حدّة، فيظهر التوحد في صورة تُعرف "بأعراض أسبرجر" Asperger’s Syndrome، نسبة إلى طبيب الأطفال النمساوي "هانز أسبرجر"، والتي تتمثل في صعوبة التعاطف مع أفكار الآخرين (فالمصابون بأعراض أسبرجر منظمون جيدون، في حين يخفقون في قدرة التعاطف). وقد يصيب داء التوحد أطفال الأسر من كافة الطبقات الاجتماعية، ومختلف الأعراق والأجناس. وهو يؤثر على النمو الطبيعي للمخ في مجال الحياة الاجتماعية، ومهارات التواصل، والتعبير اللفظي، وكذلك صعوبة مزاولة الأنشطة الترفيهية، والإتيان بردود فعل غير معتادة لدى التعامل مع الآخرين، والمقاومة الدّائبة لأي محاولة للتغيير، والسلوك العدواني في بعض الأحيان، مع الرغبة في اتباع أنماط سلوكية مقيدة ومتكررة.
ومن أشهر من يُنسب إليهم مرض التوحد من مشاهير التاريخ، ألبرت أينشتاين، وبيل جيتس، وتوماس جيفرسون، وتوماس أديسون، وإسحق نيوتن، وموتسارت، وبرنارد شو، وغيرهم. على إن قائمة المصابين بأعراض "أسبرجر" أعرض بكثير، إذ تضم – علاوة على من سبق ذكرهم: هنري فورد، وهتلر، ونابليون بونابارت، وجراهام بيل، وجورج واشنطن، وهانز أسبرجر نفسه، وليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو، وبيتهوفن وسقراط، والإسكندر الأكبر، ومارك توين، وتشارلز دارون.
ومما يبعث على الحيرة، الأطفال الذين يعانون من أعراض "أسبرجر" يكونون أفضل تميزاً في دراسات الفيزياء، والعلوم، والرياضيات، والأدب، والرياضة. ولا يقتصر افتتانهم وبشكل متكرر بالأشياء الميكانيكية والهندسية، من مقابس التيار الكهربي إلى الطائرات فحسب، بل إنهم يتخذون مدخلاً هندسياً لفهم العالم بشكل عام، محاولين فهم القواعد التي يعمل بمقتضاها الأشياء والناس، وغالباً ما يصبحون خبراء ممتازين في المعرفة الواقعية والرياضيات والمجالات الهندسية، وكثيرون منهم قد حازوا وسام فيلدز Fields Medal (أعلى الأوسمة التي تُمنح لأصحاب الإنجازات الرياضية الباهرة). وفي الامتحان المعياري لقياس الميول التوحّدية، يسجّل العلماء – بشكل عام – معدلات أعلى من الأشخاص الذين يعملون في مجالات أخرى، ويسجل كل من الفيزيائيين والمهندسين معدلات تفوق تلك الخاصة بعلماء الأحياء.
فهل يعني ذلك أن داء التوحّد، من سمات العبقرية؟
وصلة الموضوع:
http://www.balagh.com/pages/tex.php?tid=6209