مهنة إنسان
في بيتنا الصغير بأم سليم 1402هـ.. كنا في أرجائه نلعب .. أنادي.. بندر أخي قم نلعب... ما بك..لم نتجاوز الثامنة من أعمارنا بعد... جاءت أمي الحنون.. وضعت يدها على جبينه.. آه حرارته مرتفعة قالتها بنبرة منخفضة... علت تلك النبرة بسرعة "أبو بندر" الولد تعبان... بسرعة ركبنا أقرب سيارة مع الجيران.. مستوصف الحي..!
فحص أخي وقاموا بإعطائه خافض للحرارة، وتحويل لمستشفى الشميسي, ذهبنا بسرعة للطبيب... "سستر" شوفي الحرارة.. أمممم الحرارة 40.5 يا دكتور.. مضاد حيوي وخافض حرارة, دخلنا بيتنا الصغير ساعات المساء، لم تكن لتنام أمي حتى تطمئن على أخي.
ما أجمل شروق الشمس على المنازل الصغيرة المتجاورة..!
بدر وين الكورة الصغيرة ... شفها تحت طاولة التلفزيون... وخر رجلك أطلعها ... ذاك البيت الصغير ما أجمل ذكرياته... لا ندرك الوقت معه...
نركض هنا وهناك"حبشتك إلحقني"... لكن !!
أخي بندر هادئ اليوم يراقبنا بعينيه الغائرتين بوجه شاحب ... قررنا الذهاب به فوراً لطبيب يعرفه الوالد. سرنا على الأقدام لشارع الخزان ... لم يكن بعيد من المنزل... هناك عيادة لطبيب أنيق.. لا تملك عيادته ما يشعرنا بالخوف من الإبرة والتي كانت تدفعنا للأكل وشرب الحليب... شعور بطمأنينة ... لم تأخذ المقابلة سوى دقائق ثلاث ... قرر فورها الطبيب أن ما بأخي حصبة لم تخرج بعد ... هذا العلاج سيخرجها وتخفض حرارته ... ابتسامة صادقة أشعرتنا بتمنياته بالشفا العاجل ...كان من بالخارج أناس بسطاء... موظف الاستقبال لا يسألك إذا كنت قد دفعت أجر الكشف أم لا.!!
لم يحن العصر إلاَّ وبندر يسابقنا في الجري ... بل وأصبح يؤذينا وكأنه يسدد ما عليه في غيابه عن مشاكستنا اليومين الماضيين.
نسير أحياناً تجاه شارع الخزان .. تلوح لنا أحياناً لوحة تلك العيادة... شعور غريب بداخلنا... يقول ... نحبك يا دكتور محمد... عرفنا منزله ... القريب من منزلنا... وما زلت أذكر الطاووس الذي يسكن في مقدمة بيته... تملأ ألوانه الدنيا حياة وتفاؤل.!!
في بيتي .. بين أبنائي أتذكر هذا الطبيب كلما تعب أحدنا ... لكنه لم يكن يملك عيادة في برج مرموق... ولم تكن بحاجة إلى إجراءات أو إلى تنسيق واستقبال وفتح ملف وقفل آخر لكي يشتهر ويجذب الأنظار له . بل كانت لوحة صغيرة في عمارة قديمة في أوساط حيٍ أصبح الآن من الأحياء المليئة بذكريات أهالي الرياض !
زرته مرتين بعد مرحلة الطفولة... كلتا الزيارتين تأتي بعد زيارة طبيب أو اثنين قبله... وكنت أجد العلاج لديه بعد دقائق من عرض الداء..!
ولا يلبث إلا أن يصف الدواء المطلوب... مقابلته تشعرك بمعرفة واسعة وعلم زخم وخبرات متراكمة ...
آخر تلك الزيارتين كانت قبل وفاته بشهر أم اثنين... لا أذكر بالضبط أصطحبني له أخي.. آخر العنقود ..ثامر .. فرصة يشوف الدكتور محمد الذي دائماً أطريه... ثامر تصدق اشتقت أشوف الدكتور محمد أبا الخيل... تعرف يا ثامر إن الأرواح جنود مجندة ... وهذا الإنسان ألفه قلبي الصغير منذ طفولتي وكأنه أقرب قريب ... ثامر سوف ترا طبيباَ طاهر القلب... حتى أن طهره بدا على محياه حتى قبل أن تتحرك جوارحه أو ينطق لسانه.. ولا أزكيه على الله ... ادخل معي الآن لترى طبيب أحبته العائلة كلها...!
حينما رأيته صدمت مما رأيت فلم أرى ذاك الرجل الذي يتمتع بالقوة والشباب رغم سنه ... رأيت رجل ذابل الجسم شاحب الوجه متعب القوام حتى أنك تلاحظ مدى سعة الياقة على رقبته ...أي أن نحالةٍ جاءته في فترة وجيزة وسريعة ...!
حاولت أن أخفي ملامح فزعي من ما رأيت ... بدأت بالسلام وجلست وجلس ثامر أمامي ...! خير إن شاء الله قالها بلطف كعادته...بدأت أشرح له ألم ظهري ! فلم يجعلني أكمل شكواي حتى قاطعني وقال: على ما يبدو أنت تعاني من ما يسمى بالحزام الناري ... دعني أرى مكانه .. أجل هذا هو ..كررها ثانية... كنت متعجباً من سرعة التشخيص .... فهذا ليس بالسهل حينما أخبرك أني قبله كنت عند طبيب متخصص في الأمراض الجلدية... ولكن لم يذكر لي أسم هذا المرض ولم يدرك ماهي علتي!!!
وصف لي علاج و بكل بساطة قال.. تراه قديم في "غرشة" وردية عساك تلقاه لأنه زين!!
والحمد لله حصلت على ذاك الدواء .. نمت تلك الليلة أروع نوم بعد ما أنهكني آلام الليالي الماضية.
هو طبيب عام يزوره المريض الذي يشكو مرض ما فيخيلُ إليه أنه متخصص في أمر ذاك المرض...!
أب آخر يأتيه يحمل بين يديه صغيره..يخرج من عنده.. فيجزم أنه أفضل طبيب أطفال عرفه ... وهناك شيخ يشكو .... وآخر يأنُ ... الكل يظن أنه متخصص في داءه والجميع يثق بقدراته !
رحمك الله أيها الطبيب !
محمد بن مناور أبالخيل..عجزت النساء أن تلد مثلك.. وحُقَ لك أن يبكيك أبناء الرياض جميعهم ... وحقٌ على أهلها أن يدعوا لك ... وأن يمسك الكتّاب أقلامها لتوثيق ذروة وإنسان عظيم يجب أن يُكتب عنه... وليكن مرجع لكل طبيب أراد النجاح .. !
يقرأ سيرتك.. علمك.. أخلاقك ليدرك أن مهنة الطب..هي..
مهنة إنسان.....
رحمك الله....
بريد الكاتب
fa232@hotmail.com