الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (1)
الدكتور موفق العيثان استشاري علم النفس العيادي
صعوبات التعلم :
كانت نظارته تغطي جزءا من وجهه المبتسم، وكانت تحيته لي في العيادة غاية في الأدب والاحترام، مما يجعلك تفكر أن تصحبه معك إلى محافل الزعماء بلا تردد لأخلاقه العالية وهدوئه. كان الوالدان يعبران عن إحباطهما للمشكلة الدراسية الكبيرة التي يعانيها "سلمان" ولدهما الوحيد، عكس أختيه الأكبر منه، فهما متفوقتان بالمدرسة الثانوية. الأم معلمة والأب مهندس، ولا تاريخ بالعائلة لأي مشكلة قدرات حسب الأهل.
عندما تحدثت معه كانت المعلومات تنهمر من فيه بلا تردد، وإذا به يهوى العلم والدراسة والرياضيات، ولديه كم هائل من المعلومات عن الطبيعة والحيوانات، وبالذات الديناصورات، وهي منقرضة طبعا.
مهلا..! هل استعار الأهل ولد الجار وأتوا به.. أم إنهم يتحدثون عن ولدهم سلمان بدمه وشحمه.. بأن عنده مشكلات بالدراسة، وهو بعقل كبير ومنطقي جدا..! . هل نتكلم عن نفس الولد ذي السنوات العشر في الفصل الرابع؟
أحببت أن أتحقق قبل أن اتهم الأهل بالجهل وبالمبالغة، ولكيلا أحمل ذمتي ما لا تطيق..، فأخذت أسأله عن الدراسة والمدرسة، وتدريجيا أخرجت له عدة الشغل (العدة النفسية) بهدوء..اختبارات ذكاء لفظي وعملي وذاكرة ولغة وقراءة وكتابة واختبارات تفكير منطقي ورسم...إلخ، فالعدة ولله الحمد ثرية جدا. إضافة إلى استبيانات للأهل ليجيبوا عليها.
كانت إجاباته على معاني الكلمات راقية جدا بمستوى المتوسطة وأكثر. وكان يجيب على أسئلة ومشكلات التفكير المنطقي بسلاسة، وكأنه أعد لها العدة – في الواقع بعضها كان أقل من مستواه الذهني ( ولو أنها ضمن مستواه العمري) إلى درجة تخجلني أن أقدمها له، ومع ذلك أدبه لا يسمح له بالعصيان أو التمرد علي أو على الاختبار..، فيجاريني بكل أدب.
كل خمس سنوات أو عشر، تمر علي حالة واحدة أو اثنتين بهذا المستوى من الذكاء العالي جدا. سررت كسرور الأهل بعلو أدبه وذكائه. وانتقلت إلى بعض الكلمات ليقرأها علي متوقعا أنها أسهل من شرب الماء عنده، وإذا بي أتحدث مع إنسان ثان....صدمة! . لا يستطيع حتى قراءة كلمة مدرسية بسيطة من منهج السنة الأولى.. أين العبقرية يا سلمان؟
صعوبات التعلم كظاهرة ؟
يعاني ملايين العوائل بالعالم والمدارس والإدارات التربوية من أطفال لا ينجحون بالدراسة، ويعانون من مشكلات دراسية مزمنة. مما يؤدي إلى فشلهم الدراسي، وفشلهم بالحياة العملية، وتنتهي بالبعض الأمور إلى مشكلات نفسية وقانونية، واعتماد على مخدرات أو كحول أو جرائم.
بعد سنين من الفشل الدراسي يدفع المجتمع الأثمان- من غير وعي بالأسباب أو الخطوات التي مر بها الطفل ليصل إلى هذه الحالة من الرشد الفاشل مثلا. هذه الأثمان تكلف المجتمع أرقاما خيالية من التكلفة. فضلا عن المعاناة الإنسانية للفرد وللأسرة ...إلخ. إن تكلفة تعليم الطفل وإن كبرت أحيانا لا تقدر أبدا بالتكلفة الخيالية على الفرد والمجتمع والدولة عند عدم تقديم تعليم مناسب. صعوبات التعلم من المشكلات التي يمكن أن تتفاداها الأسرة والمدرسة والحكومة لإنتاج أفراد صالحين.
هل هي حقيقة؟
قد يلجأ البعض إلى ذكر أسباب لتأخر الأطفال مدرسيا وأكاديميا، مثل الكسل أو أن الأهل لم يهتموا بالطفل بما فيه الكفاية، أو أن المنهج متخلف جدا أو أن الطفل يتعلم أكثر من لغة.. إلى غير ذلك من الأسباب التي تبتعد عن التفكير والتفسير العلمي والمنهجي. ومن أكثرها إيلاما للطفل وللأهل هو أن تقول للطفل إن ذكاء الطفل منخفض جدا، وربما تستخدم كلمات جارحة كالغباء والتخلف ... إلخ.
إن الأبحاث العلمية – نفسية وعصبية مثلا- في صعوبات التعلم تتفق على أنها ظاهرة عيادية – أكاديمية توجد لدى عينة كبيرة من الأطفال والراشدين. كما أنها لا تقتصر على القراءة ولا الكتابة. بل أكثر من ذلك كما سيتضح فيما بعد، وأكثر من هذا فإن صعوبات التعلم لا تأتي لطبقة اجتماعية أو نوع من الناس دون غيرهم- بل هي تكاد عادلة بين المجتمعات، لكن ربما تظهر عند بعض العوائل أكثر من غيرهم.
في البداية يبدأ الطفل بتعلم نطق الحرف والحرفين ، بعد أن تعرف على سماع الحروف وتمييزها عن بعضها البعض ‘ بالقدرة على النطق بدأت البشرية تتحرك في مخه، فأصبح بذلك إنسانا ناطقا بحمد الله.
بعدها – في العصر الحديث من البشرية ، العشرة آلاف سنة الحالية مثلا- ملايين الأطفال يبدؤون حياتهم الأكاديمية في البيت عندما يتعلمون أصوات الحروف وصور الحروف ومقاطعها التي تتكون من حرفين أو أكثر ( عبر الكتب البسيطة جدا أو التلفاز مثلا) ، ومن ثم يربطون بين الحروف والصور ليعيدوا نطقها بصحة من مطالعة صور الحرف.
إن القدرة البصرية الذهنية لإعادة فك رمز صورة الحرف وإعطائه الصوت الصحيح.. هذه القدرة هي بداية القراءة عند البشر. إن الرابط العصبي ( عندما ينمو المخ طبيعيا بالسنين الأولى من عمر الطفل) بين صوت الحرف وصورة الحرف، تبدأ ثورة الإنسانية في مخ الطفل الناطق- الطفل يصبح قارئا، سبحان الخالق!.. غير الناطق أو غير المبصر ممكن أن يتعلم القراءة أيضا طبعا كما نعرف، لكنا نتحدث عن الطفل الطبيعي في نموه الحسي (سمعيا وبصريا). لكن البشر يختلفون في نوع وسرعة وقوة نموهم المعرفي.
وسأحاول بإذنه تعالى أن أتكلم في سلسلة من المقالات عن عينة من صعوبات التعلم، وأن أجيب عن بعض الأسئلة المهمة:
هل هناك من تعريف لصعوبات التعلم؟ . هل هناك تصنيف وتشخيص مترابط لهذا الاضطرابات ؟، وهل هي اضطرابات في نمو الطفل الذهني ؟ .. هل هي تخص الذكور أم الإناث؟ . كيف يمكن التعرف على صعوبات التعلم، وما هو تشخيصها؟ هل يمكن أن نتعرف على صعوبات التعلم في فترة طفولة الطفل المبكرة- في مرحلة الروضة مثلا؟
هل بإمكان البيت والعيادة النفسية أن تشخص وتعالج صعوبات التعلم؟
هل يمكن للطفل أن ينجح بالمدرسة وحياته المهنية مع صعوبات التعلم، وبعد العلاج والتأهيل؟
وأهم من ذلك .. هل من طريقة للوقاية من صعوبات التعلم،
وطبعا لا ننسى أن نتطرق للجوانب النفسية للطفل الذي يعاني من صعوبات تعلم، وعلاقتها بتقدير الذات والمشكلات السلوكية.
إن دراسة مفصلة لحالة الطفل سلمان توضح أن الطفل يعاني من صعوبات تعلم، وأنه بلا شك بحاجة لتشخيص دقيق وتأهيل مناسب ومتقدم . إن حل الواجبات المنزلية مع مدرس خصوصي لسنين لم يثمر للأسف إلا قليلا جدا يكاد لا يذكر. إنه بحاجة لعمل سنين من التأهيل النفسي العصبي، وهو نادر جدا جدا في بلداننا للأسف، لصعوباته الخاصة حسب قدرته الذهنية.
المصدر - جريدة الوطن السعودية