#1  
قديم 01-03-2009, 10:38 PM
الصورة الرمزية معلم متقاعد
معلم متقاعد معلم متقاعد غير متواجد حالياً
عضو ذهبي
 
تاريخ التسجيل: Mar 2008
المشاركات: 1,190
افتراضي الحسد .. جذوره وعلاجه

 

الحسد .. جذوره وعلاجه




لكلٍّ منّا محاسنه ومساوئه .


لكنّنا ـ أحياناً وكجزء من خلق المتاعب لأنفسنا ـ لا نفكّر إلاّ بمساوئنا ومحاسن غيرنا .


هنا ، ننسى أمرين :


أنّ غيرنا له مساوئه أيضاً ، وأ نّه ربّما يتمنّى أن تكون له بعضُ محاسننا .


وقد ننسى أيضاً ـ ونحن نتطلّع إلى ما في أيدي الآخرين ـ أنّ المحاسن مكتسبة أي مثلها مثل أي شيء آخر يمكن تحصيله بالتمرين والتدريب والجدّ والاجتهاد .


فكما كان لغيرك أن يسعى ويكلّل مساعيه بالنجاح ، لكَ أنت أيضاً أن تفعل الشيء نفسه ، إذا سلكت الطريق نفسه ، وحملتَ الهمّة نفسها ، وآمنت بتوفيق الله مثله .




وتسأل : ولِمَ هذا التفاوت بين الناس(([1])) ؟


هذا التفاوت له أسباب كثيرة ، منها :


· ـ التفاوت في الإرادات والعزائم والهمم .


· ـ التفاوت في كم وحجم العقبات والصعوبات التي تواجه كلاًّ منّا .


· ـ التفاوت في درجة العلم والثقافة والمهارات .


· ـ التفاوت في تقدير قيمة الأشياء .


· ـ التفاوت في تحديد الآليات والوسائل الموصلة إلى الهدف .


· ـ التفاوت في تحديد الأهداف .


· ـ التفاوت في القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى .




ولهذا التفاوت جانبان (ربّاني) و (ميداني) .


فلقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يختلف الخلقُ والبشر في أشياء كثيرة حتى يتحقّق للبشرية الإثراء في هذا التنوّع والتعدّد والاختلاف . فلقد جعلنا شعوباً وقبائل ، وجعل الاختلاف في ألواننا وأجناسنا وألسنتنا ، مثلما جعل الاختلاف في طبيعة الأرض التي نعيش عليها ، والمياه التي نشربها ، والهواء الذي نتنفّسه . وقد يبدو في الظاهر أنّ هذا الاختلاف هو اختلاف تفاضل ، ولكنّه في واقع الأمر اختلاف رحمة وتعدّد من أجل خير عميم ، وقد ثبت علمياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً أنّ التعدّد والتنوّع ثراء .


هل يحاسبنا الله على ما لم يعطنا ؟


هذا خلافُ العدالة تماماً ، ولذا فإنّه لا يحاسبنا ـ مثلاً ـ على أشكالنا وألواننا واختلاف ألسنتنا ، وإنّما يحاسبنا على ما انطوت عليه قلوبنا وعقولنا .


هل التغيير ممكن ؟


نعم ، ممكن . فليست الولادة في أرض قاحلة قدراً لا يمكن للانسان أن يتخلّص منه ، وليس الجهل صفة ملازمة لا يمكن الفكاك منها ، وليس الفقر حالة مادية مكتوبة لا يقدر الانسان أن يحسّنها أو يتجاوزها .


تقول أنّ العملية ليست ممكنة دائماً ، نقول نعم ، لأ نّه ليست الهمم واحدة فـ (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ) كما يقول الشاعر . وقد تكون هناك عوامل وظروف قاهرة لكن تفاوت الإرادات هو العامل الأكبر في تمييز انسان عن انسان آخر ، أو شعب عن شعب آخر ، وهذا هو الجانب (الميداني) للتفاوت ، وقد أشرنا إلى بعض أسبابه العملية في المقدّمة .


لكنّنا ـ في ظلّ التفاوت الأوّل والثاني ـ نرى أناساً لا يفهمون حقيقة التفاوت ، ويرجعون أسبابه إلى تصورات ذهنية خاطئة ، كأن يظنّوا ـ مثلاً ـ أنّ الله يحبّ صاحب النعمة ولا يحبّهم ، وأنّ نعمهُ سبحانه وتعالى لا تعرف الطريق إليهم ، وقد يقولون بوحي من هذه التصورات أنّ الله يمنح أو يرزق الأدرد ـ الذي بلا أسنان ـ جوزاً ، وما إلى ذلك . ولذا تراهم لا يطيقون رؤية صاحب النعمة ، وينقمون عليه ، ويتمنون أن يتجرّد من نعمته ويبقى أعزلَ منها .


هؤلاء هم الذين نسمّيهم (الحسّاد) .


فيومَ تقبّل الله قربان (هابيل) ولم يتقبّل قربان (قابيل) داخلَ الثاني شعورٌ طاغ بالغيرة القاتلة والحسد المشتعل المتصاعد كنار أكول ، فلم يتحمل رؤية أخيه أفضل منه ، أو أ نّه أقرب إلى الله تعالى منه ، فقرّر وبدافع من نيران الحسد في داخله أن ينتقم منه ، لأنّ رؤيته ماثلاً أمامه تذكّره بأ نّه أفضل منه ، فلم يهنأ له بال حتى أرداه قتيلاً .


وحين رأى إخوة يوسف (عليه السلام) أنّ أباهم يتودّد لـ (يوسف) أكثر منهم لمزايا كثيرة كان يوسف يتمتع بها ، منها أ نّه رأى مناماً صادقاً فهم أبوه يعقوب من تأويله أ نّه سيكونُ ذا شأن عظيم . ورغم أنّ الأب طلب من الابن عدم التصريح بما رأى لإخوته ، لكنّهم قرأوا امتياز يوسف في وجه أبيهم ، فتحرّكوا ، أو قلْ حرّكهم الحسد العاصف إلى التخلّص من يوسف ليخلو لهم وجهُ أبيهم ، فلم يجدوا ، أو لم يفتح لهم الحسد من طريق سوى أن ينتقموا من يوسف البريء بإلقائه في البئر والادّعاء بأنّ الذئب قد اكله .


هل (قابيل) و (إخوة يوسف) الحسّاد الوحيدون ؟


طبعاً لا ، فما أكثر الحسد وما أكثر الحاسدين .





من حالات الحسد :


وطالما أنّ الحديث هنا موجّه إلى الشبّان والفتيات ، دعونا نلتقط بعض حالات الحسد بين هذه الشريحة من كلا الجنسين ، لنتعرّف من خلال الحالات التي رصدناها على العوامل التي تجعل إنساناً يحسد إنساناً آخر .


ومع أنّ دوافع الحسد لدى الجنسين واحدة ومتقاربة ، إلاّ أ نّنا نحاول أن نفصل بين حالات الحسد بين الشبان وبين حالاته بين الفتيات ، وإن كان التداخل كبيراً ، لكنّه تقسيم اقتضاه الجانب الفنّي في البحث .



فمن حالات الحسد بين الشبّان :



1 ـ التفوّق الدراسي :


فالشاب المتفوّق دراسياً ، والذي يحظى بالثناء والتقدير من لدن أساتذته ومربّيه سيجد نفسه ـ من دون ذنب ارتكبه ـ محسوداً من قبل بعض زملائه في الفصل أو الصف .


عيونهم ترمقه بغضب مكتوم وعدم ارتياح ، خاصّة أولئك الذين هم دونه في المستوى الدراسيّ ، أو الذين يأتون في المراتب التالية بعده . فتجدهم وقد انبعث في داخل أحدهم كره وانزعاج من تفوّق هذا الشاب واعتزاز معلّميه به ، وليس هو كرهاً أو انزعاجاً ناتجاً عن تصرف قام به لإغاظتهم .


فإذا ترك هؤلاء لهذه الحالة أن تتفاعل وتتصاعد داخلياً ، فإنّها تتحول إلى حالة تمنٍّ بزوال نعمة التفوّق التي يتمتع بها زميلهم حتى لا يجد الحظوة عند أساتذته وزملائه الآخرين ممّن يقدّرون له جهوده ومثابرته وتفوّقه ويتمنّون له المزيد منها .




2 ـ المحبوب اجتماعياً :


والشاب الذي يستقطب الشباب من حوله ويجذبهم إليه في انفتاحه عليهم واحترامهم وحبّهم وبناء علاقات واسعة متينة معهم ، فيبادلونه حباً بحبّ واحتراماً باحترام ، فيصبح نجماً لامعاً بينهم كونه لطيف المعشر ، دمث الأخلاق ، حسن التعامل ، يعرف كيف ينشئ العلاقة وكيف يحافظ عليها حميمة نابضة ، هو الآخر محسود لا سيما من قبل أولئك المنطوين أو المنكمشين الذين يجدون أنفسهم في عزلة لا يصادقون احداً ولا يصادقهم أحد .


هذه المحبوبية الاجتماعية شبيهة ـ إلى حدٍّ ما ـ بالتفوّق الدراسي ، فهي في نظر الحاسدين (تفوّقٌ اجتماعيّ) والتفوق سواء كان دراسياً أو اجتماعياً أو في أي حقل آخر ، مدعاة للحسد ، أي أ نّه بطبيعته يستثير الحسد في النفوس المهيّأة لذلك .




3 ـ صاحب الموهبة :


وهذا شابّ آخر لا ينجو من حسد الحاسدين وربّما كيدهم أيضاً . فالموهبة التي يمتاز بها تجعل منه محطّ أنظار واهتمام الآخرين ، وبذلك يكثر محبّوه والمعجبون به كما يكثر حسّاده أيضاً ، لأنّ الميزة التي حصل عليها من خلال موهبته تفتح عيون حسّاده عليه بنظرات كلّها اسف وحسرة ورغبة دفينة في رؤيته فاشلاً ولو لمرّة ، أو مجرداً من موهبته تماماً حتى ينفضّ الجمع الذي حوله عنه فيعود إنساناً عادياً عارياً عن أيّة مزيّة تميزه عن غيره ، وما دام متألقاً في إبداعه فإنّ نظرات الحاسدين ترشقه بسهامها ، هذا إذا لم تفعل شيئاً أسوأ من ذلك .




4 ـ صاحب الشمائل الكريمة :


الشاب ذو الأخلاق الحسنة والشمائل اللطيفة والسيرة الحميدة العاطرة هو موضع إعجاب أصدقائه ومحبّتهم ، لكنّه من جهة ثانية موضع حسد الحاسدين أيضاً خاصّة أولئك الذين لا يمتلكون ما لديه من أخلاق طيبة يجتذبون بها أقرانهم من الشبان .


وبسبب من جفاف أخلاقهم أو انفراط أصدقائهم عنهم ، تراهم يعيشون العقدة من لطافة وكرم أخلاق زميلهم ، حتى انّهم يتمنون لو انقلب إلى إنسان فضّ حتى يتفرّق الجمع الذي يتحلّق حوله . وقد يحبّهم أيضاً لأ نّه لا يعيش العقدة إزاءهم ، ولأن نفسه كريمة لا تنطوي على الإساءة إلى أي واحد منهم ، لكنّهم يكنّون له العداوة والبغضاء دونما جرم اقترفه سوى أن أخلاقه وسجاياه لطيفة نبيلة.




5 ـ الشاب الثري :


الشاب المنعّم الثري الذي تظهر آثار النعمة عليه سواء من خلال ملابسه الفاخرة أو النقود التي يحملها ، أو السيارة التي يركبها ، أو مقتنياته ومشترياته الكثيرة ، هو أيضاً موضع حسد زملائه وأصدقائه الذين يقلّون ثراءً أو المعدمين منهم .


ولأنّ للمال بريقه ، فقد يكون الثري ذا علاقات وصداقات كثيرة ، وربّما سارع البعض إلى إقامة صداقة معه وكسب مودّته والتودّد إليه والتمتع ببعض ثرائه ، الأمر الذي يجعل الذين يحسدونه ينظرون إلى الأمرين معاً ، إلى ثرائه الذي لا يقدرون على مجاراته ، وإلى أصدقائه الذين يلتفّون حوله .




6 ـ الشاب القويّ :


هناك من الشبّان مَنْ يتمتّع بقوّة بدنيّة مميزة وعضلات مفتولة وصحّة جيِّدة ، ترى في وجهه نضارة النعيم ، فيما ترى شباناً هزيلين نحيفين مما قد يجعلهم هزالهم الزائد ونحافتهم المفرطة ينظرون إلى الشاب المتمتع بصحّة جيِّدة جدّاً نظرة حسد ، أي يتمنّون لو كان نحيفاً مثلهم حتى لا تبدو نحافتهم معيبة بالمقارنة مع ما يتمتع به من رشاقة وتناسق جسمانيّ جميل ، يلفت الأنظار إلى فتوّته فيما لا يعيرهم الآخرون نظرة مماثلة .




7 ـ الأهلية والجدارة :


أهلية أي شاب لأيّ عمل وجدارته فيه يدعو إلى أن يحسده الذي في قلبه مرض ، ولأ نّه سيلفت النظر إلى أهليته وجدارته في العمل الذي يؤدّيه فإن زملاءه من الشبان العاملين في نفس الدائرة أو المعمل أو المصنع ، سيجدونه مبرّزاً ، لافتاً للإنتباه ، موضعَ احترام وتقدير رئيسه أو المشرف على عمله الذي يقدّر كلّ دؤوب وصاحب دقّة عالية ولفتات بارعة ، الأمر الذي يرفع من درجة ذلك الشاب وترقيته بوقت أسرع ، وكلّما ارتفعت جدارته وارتفعت في المقابل نظرة المسؤولين التقويمية له ، ارتفع عدد حسّاده الذين لا يفسّرون ذلك بأ نّه أهلية تامّة وإنّما يعتبرونه ـ حسداً من عند أنفسهم ـ انحيازاً من قبل المسؤول لشخصه ، وربّما تداعى بعض الحسّاد إلى أن يسيئوا إليه بطريقة وبأخرى ، فالحسد إذا اجتمع مع الحسد فإن طاقته التدميرية تصبح أخطر .



8 ـ الفوز بجائزة أو بقرعة :


وقد ترى شباناً يشتركون في مسابقة معيّنة ، أو يقترعون حول أحدهم ليكون الفائز في جائزة ما،وربّما كانت حظوظهم في الفوز واحدة أو متقاربة،والأمر في النهاية راجع إلى ما تقرّره القرعة،فهي التي تحدّد مَن الفائز؟ لكنّ بعض المشتركين في المسابقة أو القرعة لا يرتاحون للنتيجة إذا كانت في صالح غيرهم،وهو أمر يكاد يكون طبيعياً،لكنّ شعور الحسد من الفائز والذي يصوّر للحاسد أنّ الفائز هو الذي حرمه من الفوز،وانّه لو لم يكن مشتركاً فربّما فاز الحاسد نفسه، فلا يبارك له فوزه ولا يهنئه على جائزته بل ينظر إليه نظرة غريم تحمل الكره لا الحبّ.


ومثل ذلك حينما يتقدّم مجموعة من الشبّان لإشغال وظيفة شاغرة،وقد يكونون أصدقاء،لكنّ قبول أحدهم،بدلاً من أن يشعرهم بالفرح لترشيح صاحبهم للوظيفة،فقد يوغر صدور بعضهم بالحسد ،فيصبح المرشح لنيل الوظيفة الشاغرة وكأ نّه منافسٌ لهم،وقد تتأثر صداقتهم به جرّاء ذلك.



ومن حالات الحسد بين الفتيات :



1 ـ الفتاة الجميلة :


الجمال ـ كمظهر خارجي ـ هبة الله ، واللواتي يحسدن الجميلات لأ نّهنّ أصبحُ وجهاً وأكثر إشراقاً ونضارة ينسين هذه الحقيقة ، وكأنّ الجميلة المحسودة هي التي صنعت محاسنها بنفسها ، أو أنّ الله فضّلها عليهنّ بحسنها وجمالها . ولذا فقد تحسدها هذه على شعرها وتلك على عينيها وهذه على فمها وأخرى على قوامها وإلى غير ذلك . وقد ينقلب حسد الحاسدات ـ في مرحلة لاحقة ـ إلى حالة من حالات الهزء والاستخفاف بالجمال المحسود .


وقد يتعدّى حسد القليلات الحظّ من الجمال إلى درجة تشويه سمعة الجميلة حتى يصرفن الأنظار عن جمالها إلى ما يتصورنه قبحاً في أخلاقها فيعزف الذي يخطب ودّها ، أو اللواتي يرغبن بمصاحبتها .




2 ـ الزينـة :


ويمتدّ حسد المظهر الخارجي من الجمال الشكلي إلى ما تضعه إحداهنّ من زينة ، فالأساور والأقراط والقلائد يذهب بريقها بالأبصار ، ولذا ترين النظرات المعلّقة في السواعد التي تلتف حولها الأساور ، ويزداد الحسد بازديادها ، فإذا كانت التي تضع الزينة جميلة

فإنّها تستثير من حسد الزميلات أكثر ما تثيره الزينة وحدها ، وربّما ينطلق الحسد من تقدير الثراء الذي تتمتع به ذات الزينة الباهضة .




3 ـ الحظوة بشاب ثري أو مرموق :


وقد يتقدّم أحد الشبان الأثرياء أو ممّن يشغل مهنة مرموقة لخطبة فتاة والزواج منها ، وهذا بحد ذاته داع من دواعي الحسد لدى فتيات لم يحظين بمثل هذا الشخص ، وربّما كنّ الحاسدات من القريبات للمخطوبة أو صديقاتها ، وقد يخالجهنّ شعور بالحسد فحواه أنّ المتقدم للخطبة لم ينتخب جيِّداً ، وكان ينبغي أن يقع الاختيار على واحدة أخرى وهي التي يضطرم الحسد في داخلها ، وربّما لم تصرّح بذلك ، لكنّها لا تفرح لفرح صديقتها وكأ نّها قد سرقت ذلك الشخص منها ، وحتى إذا أظهرت سرورها فللمجاملة .




4 ـ حالات مشتركة :


أمّا التفوق الدراسي واعتزاز المدرّسات بالطالبة المتفوقة أو الموهوبة،والجاذبية الاجتماعية التي تستقطب الفتيات،والثراء وغير ذلك من حالات الحسد بين بعض الشبان،فهي موجودة أيضاً بين بعض الفتيات وربّما بدرجة أكبر للحساسية المفرطة التي يعشنها إزاء هذا الأمر أو ذاك.


وغير خاف ، أنّ من الحالات التي يتعرّض فيها بعض الشبان والفتيات للحسد ، هي حسد الإخوة والأخوات . فقد يكون موقع أحد الأبناء في الأسرة موقع الابن الأثير أو المدلل ، أو الذي يحظى بعناية مركزة من أحد الأبوين أو كليهما .



تحـليل الحـسد :


ما هي هذه الحالة النفسية التي تجتاح الحسود حينما يرى النعمة على أخيه أو صديقه فلا يقر له قرار حتى تزول عنه نهائياً ؟ وكيف تتشكل هذه الغيمة السوداء التي تغطي سماء القلب فتحجب عنه الرؤية فلا يرى سوى الخبث واللؤم ؟


إنّ الحاسد هنا كما أ نّه (عاطل) عن تلك النعمة ولا يتمتع بها ، فإنّ نفسه تحدّثه بـ (تعطيل) ما لدى الغير من نعمة أو مزيّة أو موهبة . وقد تبيّن من الأمثلة ـ السالفة الذكر ـ أنّ الحسد ينجم عن فقدان الحاسد لمزيّة أو أكثر من مزايا المحسود ، وهو عوضاً عن تحصيلها أو الإقتداء بها ، يعمل من أجل تحطيمها عند مَنْ يتّصف بها ، ويشعر بالسرور والارتياح إذا نقضت أو زالت ، وكأ نّه يرى في المحسود إنساناً مزاحماً أو منافساً يعترض طريقه،فلا بدّ من إزاحته عن الطريق.


والمحسود ـ كما في كلّ الأمثلة ـ إنسان بريء لا يعمل عادةً على إغاظة الحاسد أو استثارة مشاعره ، فلمجرد أن يفوقه في شيء ما ربّاني أو مكتسب ، تراه يقع ضحيّة حسده وربّما شرّه المتمخض عن هذا الحسد ، ذلك أنّ الحسد إذا تفاقم واستشرى لا يبقى في حدود الحالة النفسية التي تتميّز غيظاً وتتمنّى بخبث زوال النعمة التي يتمتع بها المحسود ، بل ينطلق الحاسد ليدمّر محسوده ، ولعلّ هذا هو سرّ التعوّذ القرآني من شرّ الحاسد الذي لا يقف عند مجرد الخواطر النفسية (قل أعوذُ بربّ الفلق * من شرّ ما خلق * ومن شرّ غاسق إذا وقب * ومن شرّ النفّاثات في العُقد * ومن شرّ حاسد إذا حسد )([2]).


فالحسد قد ينقلب إلى جريمة والحاسد إلى مجرم ، والمحسود ـ في الغالب ـ بريء لا دخل له فيما تُحدّث به نفسُ الحسود ، وإلاّ فما ذنب (هابيل) إذا كان الله قد تقبّل قربانه ولم يتقبّل قربان أخيه، هل هو الذي طلب من الله ذلك ؟ هل كان يتمنّى أن يُقبل قربانهُ ويُرفض قربانُ أخيه ؟ هل استثار أو استفزّ أخاه بعدما رفض الله قربانه ، بأن عيّره أو سخر منه أو انتقص من قدره ؟


لم يحصل من ذلك شيء ، فلماذا إذن أقدم قابيل على قتله ؟


للجواب على ذلك لا بدّ من تتبّع حالة الحسد ابتداءً من نشوئها كخاطر يجول في النفس ، فالحسد حالة شيطانية تسير ضمن خطوات متلاحقة ، وعلى النحو التالي :


خاطر الشعور بالحسد والانقباض لما يمتلكه الآخر أو حالة من الكُره أو عدم الارتياح النفسي له أو الكذب والافتراء عليه واغتيابه والتقليل من شأنه والطعن بايجابياته أو الكيد والمكر والتآمر.


فالحسد قد يتحرّك كحالة نفسية تدفع إلى تمنّي زوال النعمة ممّن أنعم الله عليه ونال حظاً أوفر من متع ومقامات الدنيا ، وقد لا يريد الحاسد انتقالها إليه ، وهذه الحالة مرضية ينبغي على مَنْ يصاب بها أن لا يتركها دون علاج وإلاّ تحوّل (الحسد) إلى (حقد) أعمى .


من ذلك نخلص إلى أنّ للحسد حالتين : داخلية تعتمل في النفس فتكدّر صفو الحسود وتؤرّق ليله ولكنّه يحبسها ولا يتركها تندفع إلى الخارج .


وأخرى خارجية تطفح على السطح ، تعبّر عن نفسها بمظاهر عديدة أشدّها وأخطرها ليس تمنّي زوال نعمة الآخر بل زواله هو من الوجود ، كما فعل (قابيل) وذلك لكي لا يشكّل المحسود حالة تذكيرية أو استفزازية دائمة للحاسد .


وعلى ضوء هذه النظرة التحليلية للحسد ، يمكن القول إنّ الحسد يتناقض ـ إلى أقصى حدّ ـ مع الإيمان ، لأ نّه إساءة ظنّ بالله وبعدالته وحكمته ، ثمّ أنّ المؤمن ـ كما يُفترض فيه ـ لا يبغي ولا يستبطن الشرّ ولا يريد السوء بإخوانه وأصدقائه وغيرهم ممّن أنعم الله عليهم ، ولذلك اعتبر الحديث الشريف الحسد كشفرة الحلاقة الحادّة التي لا تبقي شعرة واحدة على البشرة فأطلق عليه اسم «حالق الدين» !




أسـباب الحـسد :


على ضوء هذه النظرة للحسد ، فإنّنا يمكن أن نشخّص العوامل والأسباب الرئيسة التي تخلق حالة الحسد في النفس ، وكما هو معلوم طبياً فإنّ التشخيص نصف العلاج :



1 ـ اللؤم والخبث وسوء الطباع :


إنّ النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي ، فالذي تحزنه أفراح الناس ويسرّه شقاؤهم ، ويتمنّى ـ من أعماقه ـ لو تمحق النعمة التي أنعم الله بها عليهم ، أو اكتسبوها بجهدهم الجهيد ، إنسان سيِّئ السريرة ، أي انّه يعيش حالة من المرض الاخلاقي الذي يجعله يرى النقص والذلّ في نفسه ، ويرى الآخر وهو منعّم بما هو محروم منه فيحسده تارة بالرغبة بأن تنتقل النعمة إليه ، وتارة بأن تتلاشى آثار النعمة عنه ، وكلا التمنيين خبث ودليل على الطبع السقيم .




2 ـ التنافس والمزاحمة :


ولمّا كانت الدنيا دار لهو ولعب وتفاخر وتكاثر ، فإنّ السباق فيها محموم لدرجة الرغبة الطاغية لدى بعض المتسابقين أن يروا منافسهم مصاباً بإصابة معيقة حتى لا يدخل معهم ميدان السباق . فالتنافس إمّا أن يكون شريفاً بحيث يقود إلى النتائج الطيبة ويستنفر الطاقات

ويطوّر الإمكانات والمواهب في طريق الخير والإبداع وهو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى : (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )([3]).




وإمّا أن يكون تنافساً مريضاً يؤدي إلى الحسد والبغضاء والتحاقد وربّما انتهى إلى الثأر والانتقام . ولذا تجد أنّ التحاسد بين أصحاب الحرفة أو المهنة الواحدة على أشدّه ، لأ نّهم يتنافسون على الزبائن وكسب السمعة وزيادة الأرباح ، وإزاحة المنافسين عن الطريق باتباع أساليب رخيصة في التشويش والتشويه ، فما لم يتمكّنوا من تحقيقه في خط مستقيم لا يتورعون عن بلوغه في السير بخط مائل .




3 ـ الأنانيـة :


فالحسود لا يفكّر إلاّ بنفسه حتى وهو يفكّر بالمحسود ، ذلك لأنّ تفكيره ينصبّ على مزايا الشخص المحسود لأ نّه يشعر بالنقص ويرى الكمال في محسوده ، في الوقت الذي يتوق فيه بل يتحرّق إلى أن يكون المتفوّق المتفرّد بين أصحابه وأقرانه ، ولأ نّه لا يرى إلاّ نفسه فهو لا يطيق رؤية غيره أفضل منه حتى ولو كانت أفضليته في شيء تافه أو حطام دنيوي لا قيمة معتبرة له .



4 ـ استكثار النعمة :


فالحسود يستكثر النعمة التي يتمتع بها المحسود ، وربّما رأى أ نّه لا يستحقها وبالتالي فهو يتهم الله في عدالته ، وكنتيجة لذلك تراه يزدري الحسود وينتقص من قدره ، ويحاول بصورة وبأخرى أن يشوّه نصاعة النعمة أو المزيّة التي يمتاز بها محسوده في محاولة خبيثة لذرّ الرماد في العيون حتى لا يرى غيره حسنات محسوده فيعجبون به ويميلون إليه .




5 ـ التقدير السيِّئ للأمور :


الحسود لا ينظر إلى الأمور نظرة طبيعية ، فالحسد الذي يغلي في داخله يجعله يبالغ في تقويم النعم والمزايا والمواهب التي يمتلكها الآخرون للدرجة التي يتصور معها أ نّه يتعذّر عليه الوصول إلى ما وصلوا إليه ، وهذا هو السبب الذي يدفعه إلى أن يتمنّى نسف تلك المزايا والنعم عنهم حتى لا يبدو الفارق كبيراً بينه وبين محسوديه .


ولو أنّ الحسود أعاد النظر في الأمور المبالغ فيها ، ورأى أنّها تقع في حدود الإمكان ، وأ نّه وإن افتقد بعض ذلك ، فهو يمتاز على غيره بما يفتقدونه ، وبالتالي فإن هذه النظرة المتوازنة سوف تجعله يحاصر خواطر الحسد في نفسه بل ويحاسبها عليها حتى لا تتحوّل إلى حالة سلبية ضاغطة تتحكم في مشاعره وسلوكه .




أضـرار الحـسد :


هناك نقطة جوهرية تسترعي انتباه الشبان والفتيات إليها ، ليس في الحسد وحده بل في سائر الأمراض الأخلاقية الأخرى ، وهي أن أيّ مرض من هذه الأمراض ، ونسمّيه مرضاً لأ نّه ليس حالة طبيعية أو سويّة أو صحّية ، هو مرض نفسيّ أو روحيّ ، وقد ثبت علمياً أنّ المرض النفسي ذو انعكاسات سلبية ـ طفيفة أو حادّة ـ على سلامة الجسم وأجهزته العضوية .


فما من مرض نفسي أو أخلاقي يصاب به الانسان إلاّ وتطفو آثاره على الجسد مرضاً ما . وقد يستخفّ البعض من المرضى بتشخيص الطبيب إذا قال له : إنّ هذا المرض الذي تعاني منه ولنفترض أ نّه (القرحة المعوية) هو مرض نفسي ، أو أنّ (الأرق) الذي يلازمك له أسباب نفسية . فقد تكون هناك أسباب وعوامل أخرى تؤثر على الصحّة البدنية ، إلاّ أنّ (الحسد) مثلاً يخلق حالة من التسمّم النفسي الذي يؤثر على إفرازات المعدة وأدائها فيربك عمليات الهضم والتمثيل ، وإذا اضطربت المعدة جرّاء الوضع النفسي الذي ينتجه الحسد أو غيره ، فإن ذلك سينعكس كمرض عضوي في واحد أو أكثر من أجهزتها الدقيقة والمتأثرة بما يجري في الخارج ، حيث ثبت أيضاً أنّ الأمراض المذكورة تزول بزوال المؤثر ، وقد لا تنفع معها الأدوية والعقاقير والمسكّنات ، فيما تنفع معها أساليب العلاج النفسي والابتعاد ـ ما أمكن ـ عن مواطن الإثارة ، وإلاّ ما الربط بين (الأرق) وبين قراءة القرآن ، أو الإكثار من الذكر ، أو الصلاة ، أو قراءة بعض الأحاديث والروايات ، أو بعض الأدعية ؟!


من ذلك نخلص إلى أنّ أضرار الأمراض الأخلاقية لا تنحصر في التسبّب باضطرابات نفسية وإنّما لها أعراض جانبية جسدية أيضاً ، ويمكنك التأكّد من ذلك من خلال قراءة المجلاّت أو النشرات الطبية والصحّية المتخصّصة التي تقدِّم نتائجها على ضوء دراسات ميدانية أو سريرية أو استبيانية كاشفة عن ذلك .



فمن الأمراض النفسية التي يتسبّب بها الحسد :



1 ـ الشقاء النفسي :


لعلّك سمعت المقولة الشائعة التي تقول : (الحسود لا يسود) فهل سألتَ نفسك هذا السؤال : لماذا لا يسود الحسود ؟


لا يسود ، لأ نّه لا يصل إلى ما يريد ، فتراه يعيش السخط والحسرة والحقد والألم ، وكلّ هذه الأشياء مانعة من أن يصل الانسان إلى السيادة التي تتطلب نفساً كبيرة وصدراً رحباً وقلباً محبّاً للناس .


فحياة الحسود ، أيامه ولياليه ، مكدّرة دائماً لأ نّه يعيش الاضطراب

والعبوس والقتامة طالما هو في لقاء مع الناس ، وإذا استشرت حالة الحسد عنده فلا يسلم من حسده أحد حتى الأطفال الصغار الأبرياء الذين يراهم يلهون بانشراح وحبور ، ولأ نّه يعيش الكآبة الدائمة ، فإنّه يحسدهم على ما هم فيه من نعيم ! فتصوّروا !!




يقول الإمام علي (عليه السلام) : «ما رأيتُ ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد : نفسٌ دائم ، وقلبٌ هائم ، وحزنٌ لازم» .


إنّ الحسّاد يُعذّبون أنفسهم بأنفسِهم كلّما فسحوا المجال للحسد في أن يأكل قلوبهم ويسوّد الدنيا بأعينهم ، ذلك أنّ الحسد ـ كما شبّهه أحد الشعراء ـ كالنار تأكل بعضِها إن لم تجد ما تأكله ، فهل شقاء وعذاب نفسيّ أكبر من هذا ؟




2 ـ تلوّث السمعة :


قد يكتم الحاسد حسده في نفسه فلا يظهره في فلتات لسانه وملامح وجهه وتصرّفاته وأفعاله ، ولكنّ بعض الحسّاد لا يتمكنون من إخفاء حسدهم ، الأمر الذي يجعل المقربين منهم يشعرون بما يعانون منه فيخشون على أنفسهم من هؤلاء الحسّاد ، ولذا فلا ترى حسوداً محبوباً أو ممدوحاً أو لديه أصدقاء كثيرون ، بل على العكس من ذلك ، تراه موضع هزء وسخرية وامتعاض ونفور من قبل الآخرين الذين يتقون الحاسد ويهربون من شروره ، وقد يُحاصَر الحسود فيُعتزَل لأ نّه لا يجد مَنْ يؤيده في موقفه ، ولذا يعيش محتقراً منبوذا .




3 ـ التخطيط للإيقاع بالمحسود :


سبقت الإشارة إلى أنّ الحسد الذي يبقى في دائرة الخواطر النفسية لا خطورة فيه لأنّ صاحبه لا يرتّب على خواطره أثراً ، أمّا إذا استحكمت عقدة الحسد عند الحاسد فإنّه يُعمل ذهنه من أجل التخريب والإيقاع بالمحسود وتهشيم سمعته وكرامته وتمريغ مزاياه بالوحل . فتراه ينسج الأكاذيب والتهم الملفّقة والفتن الغريبة للتفريق بين محسوده وبين محبيه ومريديه ، وهذه الأمور لا تنبعث إلاّ من نفس شيطانية قاتمة سوداء محتقنة .




4 ـ الشعور بالتكبّر :


لا غرابة في أن تجد بعض الأمراض الأخلاقية تنفّذ بعضها على البعض الآخر ، فتصبح كالامراض المركبة التي تستعصي على العلاج ، لأنّ اجتماع الشرور والخبائث والمساوئ في النفس يجعلها عرضة للأمراض المستديمة ، فترك المرض الأخلاقي من غير علاج يجعل علاجه في المستقبل صعباً ، كما أ نّه يشكّل تربة خصبة أو بؤرة لأمراض أخرى .


فالحسود حينما يستفحل حسده فإنّه لا يكتفي بأمنياته القديمة في زوال النعم التي يتمتع بها محسودوه ، بل يصل به الأمر إلى التكبّر عليهم ، كالجاهل الذي يتكبّر على العالِم فلا يحضر دروسه ومواعظه حسداً من عند نفسه .




5 ـ منفذ اختراق :


وقد يستغل البعض ممّن يحمل ثأراً معيّناً من شخص ما حسدَ الحاسدين له فيتخذون من حسدهم نقطة اختراق ينفذون منها لتدمير الشخصيات البارزة أو ذات الموقع الاجتماعي والثقافي المؤثر أو أي انسان مرموق ، أي أنّ النوايا السيِّئة تلتقي عند الأعداء وعند الحاسدين ليشتركا في تحطيم المحسودين .




6 ـ التعرّض لسخط الله :


وبالإضافة إلى ما يعانيه الحسود في الدنيا من متاعب نفسية جمّة ، فإنّه سيفد على الله ونفسه محمّلة بالآثام والأوزار ، فلقد أساء الظنّ بالله وطعن بعدالته وسخط على مشيئته ، وقد تعرّض لأولياء الله من المؤمنين والعاملين أو الذين أنعم الله عليهم ، بالسوء والإفتراء والغيبة والمكر والتآمر وربّما تحطيم حياتهم . وربّما تعرّض الحسود إلى محبّي ومريدي المحسود فنالهم منه شرٌّ مستطير ، وهو أخطر أنواع الحسد وأشدّها إذ لا يقتصر على المحسود فقط ، ولذا قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «الحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل» .




أمّا أضرار الحسد (العملية) فيمكن تلخيصها بكلمة واحدة : الحسد عجز وركودٌ وتناقص . فكيف ذلك ؟


إنّ الحسود وهو دائم الهمّ والحزن والإنشغال بتحطيم نفسه وتحطيم (غريمه) و (خصمه) و (منافسه) البريء الذي يسلّط عليه نيران حقده وحسده ، إنّما يعطّل طاقاته ويجمّدها ، أو لنقل إنّه يجعلها تسير في اتجاه واحد فقط وهو خط السوء والبغضاء والشرّ والانتقام ، ولذا فإنّه (ينمو) في الجانب السلبيّ حيث يتفتق ذهنه عن اجتراح المنكرات والأساليب الانتقامية والتدميرية التي يخوض بها معركة التخلّص من محسوده .


وفي موازاة هذا (النمو) السلبيّ تراه يأخذ بالتناقص والانحدار والتداعي في قواه الخيّرة ، ذلك أنّ النباتات الضارّة إذا نبتت في حديقة القلب حجبت الكثير من الماء والهواء والضوء عن النباتات النافعة .




السعي لعلاج الحسد :


كما في كلّ الأمراض الأخلاقية والنفسية فإنّ العلاج يأتي من الداخل وليس من الخارج ، وما لم يتم القضاء على العوامل المسببة للمرض يتعذّر إيجاد علاج شاف منه .


المهمّة ليست صعبة وإن بدت لأوّل وهلة كذلك .


فكما يمكن تعويد النفس على السيِّئ من الأمور ، يمكن ترويضها على الحسن الإيجابي منها ، وإن كانت المهمّة هنا أصعب لأ نّها مخالفة لهوى النفس ورغباتها ومشتهياتها ، لكن ينبغي أن لا ننسى شيئاً مهماً وهو أن مردودات ومكاسب (الترويض) أكبر وأكثر .



دعونا إذن نتتبع العلاج ضمن خطوات :


الخطوة الأولى : أن نضع إصبعنا على موضع الداء ، أي نختبر أنفسنا لنكتشف هل أن داء الحسد قد تسرب إليها ، وكيف تتعامل مع تفوّق الآخرين واحترام الناس لهم وإعجابهم بما لديهم من مواهب وملكات .



الخطوة الثانية : أن نتحسّس مخاطر المرض وآثاره الوخيمة الداخلية والخارجية . فقد لا يذهب إلى الطبيب الذي لا يشعر بخطورة المرض أو يستسهله ، لكنّه إذا عرف أ نّه مرض خطير بادر إلى علاجه.



الخطوة الثالثة : دراسة أسباب الحسد في كلّ حالة ومناقشتها مناقشة علمية وصريحة ، فقد تختلف أسباب الحسد من حالة إلى أخرى . والغاية من دراسة الأسباب هو السعي لتجفيفها وردمها قبل أن تصبح حفرة عميقة يصعب الخروج منها .



الخطوة الرابعة : وصفة العلاج ، وهي وصفة تشتمل على بنود عديدة ، منها :


1 ـ أن نتذكّر دائماً أنّ النِّعَم هبات إلهية ولا تقاس بالاستحقاق وعدم الاستحقاق ، فحكمة الله أبلغ وأوسع من مداركنا (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله )([4]) .


2 ـ لنتذكّر أيضاً ، أنّ المحسود لا يقصد ـ في الأعمّ الأغلب ـ الإساءة إلينا ، أو إثارة حالة الحسد داخل نفوسنا ، فلِمَ نحاربُ إنساناً بريئاً أو نشهر العداوة ضدّه ؟!


3 ـ لنتعلّم .. أن نتطلّع إلى ما في أيدينا من نِعم ومواهب وخصائص ، ولا يكون أكبر همّنا أن نمدّ أعيننا إلى ما متّع الله به غيرنا .. فالعيون المتطلّعة إلى الأعلى تتعب(([5])) .. أكثر النظر إلى مَنْ هم دونك ، فهو نظرٌ يحمل إليك الكثير من المشاعر الرضية الشكورة .


4 ـ أن نتذكّر أنّ امكانية السعي للحصول على ما لدى الغير أو بعضه أو أكثر منه ، متوافرة خاصّة إذا امتلكنا إرادتنا وعزمنا وتصميمنا على بلوغ ما نتمنّى . وهذه ليست وصفة تسكينية ، فلعلّك جربتَ في حياتك كيف أنّ الإرادة ـ كما يقال ـ تصنع المستحيل أو تقهره .


إنّ السعي بحد ذاته يخفّف من مشاعر الحسد وربّما يزيلها تماماً ، أو يقلبها إلى (منافسة شريفة) أي التنافس في الخيرات والإبداع والتنمية والتطوير .


5 ـ نمِّ ما لديك من نقاط إيجابية ومزايا طيبة ومواهب أوّلية حتى تكون مرموقة .


6 ـ لنتذكر دائماً .. مساوئ الحسد وأضراره وشروره وما فعله بالحسّاد من قبل ، وليردّد مَنْ يشعر بالحسد قول الشاعر :


لله درُّ الحسد ما أعدله***قد بدأ بصاحبهِ فقتله !


والعاقل ـ كما يقال ـ مَنْ اتّعظ بغيره ، فهل أرتضي لنفسي أن أكون طُعمة للحسد يأكلني ليلاً ونهاراً ، وأنا أتفرّج على مشهد افتراسي دون أن أضع حدّاً أو نهاية لاسترساله في نهش قلبي ومشاعري ؟!


7 ـ لنقرأ في عيون الناس وملامحهم وانطباعاتهم ومواقفهم من الحاسدين ، لنرى كيف أ نّهم ينبذون الحسود ويمقتونه ويهربون منه هروبهم من النار المحرقة . ولندِر البصر لنرى الحسّاد كيف يُحشرون في الزوايا الضيّقة .. مهملين .. محتقرين قد انفضّ الناس من حولهم .


8 ـ حاسب نفسك عند كلّ حالة حسد .. ولا تدعها تمرّ وأنت ساكت أو راض .. اعتبر ذلك حالة مشينة .. ربِّ في نفسك حالة التأنيب الداخلي ، فذلك سبيل مهم من سبل تطويق الحسد ومحاصرته تمهيداً لقتله .


وربّما كان نافعاً أيضاً أن تستثير في نفسك حالة الشعور بالإثم ، بأن تقول : هذه معصية .. هذه كبيرة .. هذا عملٌ يُسخط الله .. إلخ .


9 ـ راجع حالات الحسد التي تقدّم ذكرها في البداية .. ادرسها بنفسك .. حاول أن تواجه كلّ حالة بعكسها ، فإذا دعاك الحسد إلى طمس فضائل الآخرين .. خالفه وانشر تلك الفضائل .. وإذا حملكَ على التكبّر فجابهه بالتواضع .. وإذا دعاك إلى احتقار الآخر فقابله

بالاحترام والتقدير ، وإذا وسوس لك باغتيابه فأكثر من مدحه والثناء عليه ، وإذا ضغط عليك لتقاطعه أو تهجره فقابل ذلك بالألفة والتواصل .




فردود الأفعال هذه ستكون لها آثار إيجابية على نفسيتك ، وستجد أ نّك أكبر من خواطر شيطانية تريد أن تحبسك في زنزانة الحسد الضيقة .


10 ـ قوّ الحالة الإيمانية لديك .. التقوى والورع يمكن اكتسابهما

بالتربية الخاصّة ، والمفردات السابقة كلّها تزرع في داخلك هاتين الملكتين ، فإذا اتقيت الله في أخيك ولم تبغِ عليه بحسدك ، وإنّما تمنّيت له المزيد من التوفيق والنعم ، فإن ذلك سوف يحقق لك أكثر من مكسب ، فعلاوة على أ نّك تكسب مودّته ومحبّته وعرفانه بلطفك ، فإنّ الله سيرزقك مثله وزيادة ، وستعيش هانئاً قرير العين .




11 ـ راجع كتب الأخلاق والمواعظ التي قيلت في علاج الحسد ، والدراسات التي تضع خطوات عملية لمجابهته ، وستجد فيها ما يأخذ بيدك في طريق المكافحة .


12 ـ اعمل بنصيحة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأ نّها مجرّبة وذات أثر فعّال ، فلقد قال لأصحابه ذات يوم : «ألا إنّه قد دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم وهو الحسد ، ليس بحالق الشعر ، لكنّه حالق الدين ، وينجّي منه أن يكفّ الانسان يده ، ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن» .


فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا يقدِّم لنا وصفة علاجية ناجحة للحسد ، في قوله «وينجِّي منه» ، فالنجاة من الحسد ترتكز على ثلاث ركائز :


أ . كفّ اليد : أي أن لا يتحرك الحسد من حالة نفسية داخلية إلى ممارسة للعنف مع المحسود في الخارج ، كما فعل (قابيل) مع (هابيل) فقد بسط إليه يده ليقتله .


ب . حبس اللسان : فلا يطفح الحسد من الداخل إلى اللسان بكلمات الفحش والبذاءة والتسقيط والسُّباب والتشهير والغيبة والبهتان ، فتلك روائح منتنة لا تنبعث إلاّ من القلب الآسن الذي تنمو فيه طحالب الخبث والسوء والرذيلة والتشفّي .


ج . لا تكن غمّازاً:والغمز هو الطعن في سمعة وقدرات ومواهب المحسود من أجل إسقاطه في نظر الآخرين،لأنّ الحاسد يريد أيضاً أن يؤلّب غيره على محسوده حتى لا يبدو الحاسد الوحيد.


وقد طرح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) العلاج المذكور بصيغة أخرى في حديث آخر ، حيث يقول : «وإذا حسدت فلا تبغِ» أي يجب أن لا يتطوّر الحسد لديك إلى حالة بغي وعدوان ومكيدة وحقد أعمى .


الخطوة الخامسة : واظب على العلاج .. واحمل نفسك على تطبيقه .. ولا تضع الدواء على الرف دون أن تستخدم منه شيئاً ، وإلاّ مكنتَ داء الحسد من أن يكون عقدة مستحكمة .




قيمة (الغِبطة) :


(الغبطة) هي موقف معاكس لـ (الحسد) فالحسد سلبيّ والغبطة إيجابية ، وطالما أنّ الحديث عن العلاج ، فإنّنا نفرد لهذه الخطوة العلاجية حديثاً خاصاً .


فإذا كان الحسد يعني تمنّي زوال نعمة الغير أو انتقالها إلى المحسود ، فإنّ الغبطة هي تمنّي نعمة مماثلة للنعمة التي يتمتع بها المحسود . فأنت حينما تتمنّى أن تكون لديك نعمة أو خصلة أو مزيّة من مزايا الشخص الآخر ، إنّما تضع في الحساب أنّ الله واسع الرزق واسع الرحمة ، وكما أنعم على أخيك أو صديقك أو أي إنسان آخر بنعمة ما ، فإنّه قادر على أن يمنّ عليك بمثلها ، ولا يُحدث ذلك نقصاً في خزائنه التي لا تنفد ، وهو عليه سهلٌ يسير .


بينما الأمر في الحسد مختلف ، فأنت هناك تضيّق واسعاً فترى أنّ رحمة الله ورزقه ولطفه وعنايته محصورة بالشخص المحسود ، وحتى تنعم بها لا بدّ من زوالها منه وانتقالها إليك ، في حين أ نّك تعرف أنّ نعم الله لا تعدّ ولا تحصى وهي تفوق الكمّ البشريّ الهائل منذ الخليقة وحتى النشور .


يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «قال الله عزّ وجلّ لموسى بن عمران : يا ابن عمران ! لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدنّ عينيك إلى ذلك ولا تُتبعهُ نفسك ، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي ، صادٌّ لقسمي الذي قسمتُ بين عبادي ، ومَنْ يكُ كذلك فلستُ منه وليس منِّي» .


ولذا فإنّ وعي المُغتَبِط أو الغابِط الذي يتمنّى أن يكون له مثل ما لغيره دون أن يحيف أو يسيء الظن أو يمارس البغي ، وعيٌ إيمانيّ راجح يعبّر عن نفس زكيّة ، فهو لا يغلق الباب على نفسه في التمنّي على دائمِ الفضلِ على الناس والباسط يديه بالعطاء ، ولا ينظر نظراً شزراً إلى ما لدى الآخرين من نعم ، بل هو يتمنّى لهم أن ينعموا ويهنأوا فيما هم فيه ، وأن يزيد الله عليهم من فضله وبركاته ، ولذا تراه إذا رأى النعمة عند غيره ذكر الله ، وقال : «بسم الله ما شاء الله» يريد بذلك أنّ إرادة الله هي الحاكمة ونحن لا نملك إلاّ التسليم لها .


إنّ المغتبط ـ على عكس الحاسد ـ يعيش النقاء الروحيّ الذي ينطلق من التعامل مع المُنعِم مباشرة وليس مع المُنعَمْ عليه ، لأ نّه يرى أنّ هذا ـ مهما كان غنياً ـ فهو فقير مثله ولولا فضل الله ونعمته عليه لما ظهرت عليه آثار النعمة (يا أ يُّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد )([6]) .


ونخلص من ذلك ، إلى أنّ الاسلام يهتم بـ (الدافع) و (المحرّض) و (المحرّك) و (النيّة) فالدافع في الحسد شرير سواء على مستوى التفكير أو مستوى التخطيط للتدمير ، في حين أنّ الدافع في (الغبطة) خيّر في التفكير وفي إرادة الخير للذات وللغير .



وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين




([1]) لا نريد هنا الخوض في بحث العدل الإلهي في جانبه العقائدي بشكل تفصيلي ، وإنّما نريد تسليط الضوء على الجوانب العملية الملموسة من أسباب وآثار هذا التفاوت .
([2]) الفلق / 1 ـ 5 .
([3]) المطففين / 26 .
([4]) النساء / 54 .
([5]) قد يقول شاب أو فتاة إذا أدمنا النظر إلى مَنْ هم دوننا فإنّنا سوف لن نتطوّر ، وهذا الكلام صحيح على صعيد الفضائل الخُلقية والإرتقاء بالمستوى العلمي وتطوير الأداء العملي أمّا الماديات والشكليات فمن طبيعتها أنّها ترهق كواهلنا النفسيّة .
([6]) فاطر / 15 .

 

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-15-2010, 03:23 AM
القادم الغريب القادم الغريب غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 1
افتراضي ماهو المرجع لهذا الكلام الموضوع الرائع

 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة معلم متقاعد مشاهدة المشاركة
الحسد .. جذوره وعلاجه





لكلٍّ منّا محاسنه ومساوئه .


لكنّنا ـ أحياناً وكجزء من خلق المتاعب لأنفسنا ـ لا نفكّر إلاّ بمساوئنا ومحاسن غيرنا .


هنا ، ننسى أمرين :


أنّ غيرنا له مساوئه أيضاً ، وأ نّه ربّما يتمنّى أن تكون له بعضُ محاسننا .


وقد ننسى أيضاً ـ ونحن نتطلّع إلى ما في أيدي الآخرين ـ أنّ المحاسن مكتسبة أي مثلها مثل أي شيء آخر يمكن تحصيله بالتمرين والتدريب والجدّ والاجتهاد .


فكما كان لغيرك أن يسعى ويكلّل مساعيه بالنجاح ، لكَ أنت أيضاً أن تفعل الشيء نفسه ، إذا سلكت الطريق نفسه ، وحملتَ الهمّة نفسها ، وآمنت بتوفيق الله مثله .




وتسأل : ولِمَ هذا التفاوت بين الناس(([1])) ؟


هذا التفاوت له أسباب كثيرة ، منها :


· ـ التفاوت في الإرادات والعزائم والهمم .


· ـ التفاوت في كم وحجم العقبات والصعوبات التي تواجه كلاًّ منّا .


· ـ التفاوت في درجة العلم والثقافة والمهارات .


· ـ التفاوت في تقدير قيمة الأشياء .


· ـ التفاوت في تحديد الآليات والوسائل الموصلة إلى الهدف .


· ـ التفاوت في تحديد الأهداف .


· ـ التفاوت في القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى .




ولهذا التفاوت جانبان (ربّاني) و (ميداني) .


فلقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يختلف الخلقُ والبشر في أشياء كثيرة حتى يتحقّق للبشرية الإثراء في هذا التنوّع والتعدّد والاختلاف . فلقد جعلنا شعوباً وقبائل ، وجعل الاختلاف في ألواننا وأجناسنا وألسنتنا ، مثلما جعل الاختلاف في طبيعة الأرض التي نعيش عليها ، والمياه التي نشربها ، والهواء الذي نتنفّسه . وقد يبدو في الظاهر أنّ هذا الاختلاف هو اختلاف تفاضل ، ولكنّه في واقع الأمر اختلاف رحمة وتعدّد من أجل خير عميم ، وقد ثبت علمياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً أنّ التعدّد والتنوّع ثراء .


هل يحاسبنا الله على ما لم يعطنا ؟


هذا خلافُ العدالة تماماً ، ولذا فإنّه لا يحاسبنا ـ مثلاً ـ على أشكالنا وألواننا واختلاف ألسنتنا ، وإنّما يحاسبنا على ما انطوت عليه قلوبنا وعقولنا .


هل التغيير ممكن ؟


نعم ، ممكن . فليست الولادة في أرض قاحلة قدراً لا يمكن للانسان أن يتخلّص منه ، وليس الجهل صفة ملازمة لا يمكن الفكاك منها ، وليس الفقر حالة مادية مكتوبة لا يقدر الانسان أن يحسّنها أو يتجاوزها .


تقول أنّ العملية ليست ممكنة دائماً ، نقول نعم ، لأ نّه ليست الهمم واحدة فـ (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ) كما يقول الشاعر . وقد تكون هناك عوامل وظروف قاهرة لكن تفاوت الإرادات هو العامل الأكبر في تمييز انسان عن انسان آخر ، أو شعب عن شعب آخر ، وهذا هو الجانب (الميداني) للتفاوت ، وقد أشرنا إلى بعض أسبابه العملية في المقدّمة .


لكنّنا ـ في ظلّ التفاوت الأوّل والثاني ـ نرى أناساً لا يفهمون حقيقة التفاوت ، ويرجعون أسبابه إلى تصورات ذهنية خاطئة ، كأن يظنّوا ـ مثلاً ـ أنّ الله يحبّ صاحب النعمة ولا يحبّهم ، وأنّ نعمهُ سبحانه وتعالى لا تعرف الطريق إليهم ، وقد يقولون بوحي من هذه التصورات أنّ الله يمنح أو يرزق الأدرد ـ الذي بلا أسنان ـ جوزاً ، وما إلى ذلك . ولذا تراهم لا يطيقون رؤية صاحب النعمة ، وينقمون عليه ، ويتمنون أن يتجرّد من نعمته ويبقى أعزلَ منها .


هؤلاء هم الذين نسمّيهم (الحسّاد) .


فيومَ تقبّل الله قربان (هابيل) ولم يتقبّل قربان (قابيل) داخلَ الثاني شعورٌ طاغ بالغيرة القاتلة والحسد المشتعل المتصاعد كنار أكول ، فلم يتحمل رؤية أخيه أفضل منه ، أو أ نّه أقرب إلى الله تعالى منه ، فقرّر وبدافع من نيران الحسد في داخله أن ينتقم منه ، لأنّ رؤيته ماثلاً أمامه تذكّره بأ نّه أفضل منه ، فلم يهنأ له بال حتى أرداه قتيلاً .


وحين رأى إخوة يوسف (عليه السلام) أنّ أباهم يتودّد لـ (يوسف) أكثر منهم لمزايا كثيرة كان يوسف يتمتع بها ، منها أ نّه رأى مناماً صادقاً فهم أبوه يعقوب من تأويله أ نّه سيكونُ ذا شأن عظيم . ورغم أنّ الأب طلب من الابن عدم التصريح بما رأى لإخوته ، لكنّهم قرأوا امتياز يوسف في وجه أبيهم ، فتحرّكوا ، أو قلْ حرّكهم الحسد العاصف إلى التخلّص من يوسف ليخلو لهم وجهُ أبيهم ، فلم يجدوا ، أو لم يفتح لهم الحسد من طريق سوى أن ينتقموا من يوسف البريء بإلقائه في البئر والادّعاء بأنّ الذئب قد اكله .


هل (قابيل) و (إخوة يوسف) الحسّاد الوحيدون ؟


طبعاً لا ، فما أكثر الحسد وما أكثر الحاسدين .





من حالات الحسد :


وطالما أنّ الحديث هنا موجّه إلى الشبّان والفتيات ، دعونا نلتقط بعض حالات الحسد بين هذه الشريحة من كلا الجنسين ، لنتعرّف من خلال الحالات التي رصدناها على العوامل التي تجعل إنساناً يحسد إنساناً آخر .


ومع أنّ دوافع الحسد لدى الجنسين واحدة ومتقاربة ، إلاّ أ نّنا نحاول أن نفصل بين حالات الحسد بين الشبان وبين حالاته بين الفتيات ، وإن كان التداخل كبيراً ، لكنّه تقسيم اقتضاه الجانب الفنّي في البحث .



فمن حالات الحسد بين الشبّان :



1 ـ التفوّق الدراسي :


فالشاب المتفوّق دراسياً ، والذي يحظى بالثناء والتقدير من لدن أساتذته ومربّيه سيجد نفسه ـ من دون ذنب ارتكبه ـ محسوداً من قبل بعض زملائه في الفصل أو الصف .


عيونهم ترمقه بغضب مكتوم وعدم ارتياح ، خاصّة أولئك الذين هم دونه في المستوى الدراسيّ ، أو الذين يأتون في المراتب التالية بعده . فتجدهم وقد انبعث في داخل أحدهم كره وانزعاج من تفوّق هذا الشاب واعتزاز معلّميه به ، وليس هو كرهاً أو انزعاجاً ناتجاً عن تصرف قام به لإغاظتهم .


فإذا ترك هؤلاء لهذه الحالة أن تتفاعل وتتصاعد داخلياً ، فإنّها تتحول إلى حالة تمنٍّ بزوال نعمة التفوّق التي يتمتع بها زميلهم حتى لا يجد الحظوة عند أساتذته وزملائه الآخرين ممّن يقدّرون له جهوده ومثابرته وتفوّقه ويتمنّون له المزيد منها .




2 ـ المحبوب اجتماعياً :


والشاب الذي يستقطب الشباب من حوله ويجذبهم إليه في انفتاحه عليهم واحترامهم وحبّهم وبناء علاقات واسعة متينة معهم ، فيبادلونه حباً بحبّ واحتراماً باحترام ، فيصبح نجماً لامعاً بينهم كونه لطيف المعشر ، دمث الأخلاق ، حسن التعامل ، يعرف كيف ينشئ العلاقة وكيف يحافظ عليها حميمة نابضة ، هو الآخر محسود لا سيما من قبل أولئك المنطوين أو المنكمشين الذين يجدون أنفسهم في عزلة لا يصادقون احداً ولا يصادقهم أحد .


هذه المحبوبية الاجتماعية شبيهة ـ إلى حدٍّ ما ـ بالتفوّق الدراسي ، فهي في نظر الحاسدين (تفوّقٌ اجتماعيّ) والتفوق سواء كان دراسياً أو اجتماعياً أو في أي حقل آخر ، مدعاة للحسد ، أي أ نّه بطبيعته يستثير الحسد في النفوس المهيّأة لذلك .




3 ـ صاحب الموهبة :


وهذا شابّ آخر لا ينجو من حسد الحاسدين وربّما كيدهم أيضاً . فالموهبة التي يمتاز بها تجعل منه محطّ أنظار واهتمام الآخرين ، وبذلك يكثر محبّوه والمعجبون به كما يكثر حسّاده أيضاً ، لأنّ الميزة التي حصل عليها من خلال موهبته تفتح عيون حسّاده عليه بنظرات كلّها اسف وحسرة ورغبة دفينة في رؤيته فاشلاً ولو لمرّة ، أو مجرداً من موهبته تماماً حتى ينفضّ الجمع الذي حوله عنه فيعود إنساناً عادياً عارياً عن أيّة مزيّة تميزه عن غيره ، وما دام متألقاً في إبداعه فإنّ نظرات الحاسدين ترشقه بسهامها ، هذا إذا لم تفعل شيئاً أسوأ من ذلك .




4 ـ صاحب الشمائل الكريمة :


الشاب ذو الأخلاق الحسنة والشمائل اللطيفة والسيرة الحميدة العاطرة هو موضع إعجاب أصدقائه ومحبّتهم ، لكنّه من جهة ثانية موضع حسد الحاسدين أيضاً خاصّة أولئك الذين لا يمتلكون ما لديه من أخلاق طيبة يجتذبون بها أقرانهم من الشبان .


وبسبب من جفاف أخلاقهم أو انفراط أصدقائهم عنهم ، تراهم يعيشون العقدة من لطافة وكرم أخلاق زميلهم ، حتى انّهم يتمنون لو انقلب إلى إنسان فضّ حتى يتفرّق الجمع الذي يتحلّق حوله . وقد يحبّهم أيضاً لأ نّه لا يعيش العقدة إزاءهم ، ولأن نفسه كريمة لا تنطوي على الإساءة إلى أي واحد منهم ، لكنّهم يكنّون له العداوة والبغضاء دونما جرم اقترفه سوى أن أخلاقه وسجاياه لطيفة نبيلة.




5 ـ الشاب الثري :


الشاب المنعّم الثري الذي تظهر آثار النعمة عليه سواء من خلال ملابسه الفاخرة أو النقود التي يحملها ، أو السيارة التي يركبها ، أو مقتنياته ومشترياته الكثيرة ، هو أيضاً موضع حسد زملائه وأصدقائه الذين يقلّون ثراءً أو المعدمين منهم .


ولأنّ للمال بريقه ، فقد يكون الثري ذا علاقات وصداقات كثيرة ، وربّما سارع البعض إلى إقامة صداقة معه وكسب مودّته والتودّد إليه والتمتع ببعض ثرائه ، الأمر الذي يجعل الذين يحسدونه ينظرون إلى الأمرين معاً ، إلى ثرائه الذي لا يقدرون على مجاراته ، وإلى أصدقائه الذين يلتفّون حوله .




6 ـ الشاب القويّ :


هناك من الشبّان مَنْ يتمتّع بقوّة بدنيّة مميزة وعضلات مفتولة وصحّة جيِّدة ، ترى في وجهه نضارة النعيم ، فيما ترى شباناً هزيلين نحيفين مما قد يجعلهم هزالهم الزائد ونحافتهم المفرطة ينظرون إلى الشاب المتمتع بصحّة جيِّدة جدّاً نظرة حسد ، أي يتمنّون لو كان نحيفاً مثلهم حتى لا تبدو نحافتهم معيبة بالمقارنة مع ما يتمتع به من رشاقة وتناسق جسمانيّ جميل ، يلفت الأنظار إلى فتوّته فيما لا يعيرهم الآخرون نظرة مماثلة .




7 ـ الأهلية والجدارة :


أهلية أي شاب لأيّ عمل وجدارته فيه يدعو إلى أن يحسده الذي في قلبه مرض ، ولأ نّه سيلفت النظر إلى أهليته وجدارته في العمل الذي يؤدّيه فإن زملاءه من الشبان العاملين في نفس الدائرة أو المعمل أو المصنع ، سيجدونه مبرّزاً ، لافتاً للإنتباه ، موضعَ احترام وتقدير رئيسه أو المشرف على عمله الذي يقدّر كلّ دؤوب وصاحب دقّة عالية ولفتات بارعة ، الأمر الذي يرفع من درجة ذلك الشاب وترقيته بوقت أسرع ، وكلّما ارتفعت جدارته وارتفعت في المقابل نظرة المسؤولين التقويمية له ، ارتفع عدد حسّاده الذين لا يفسّرون ذلك بأ نّه أهلية تامّة وإنّما يعتبرونه ـ حسداً من عند أنفسهم ـ انحيازاً من قبل المسؤول لشخصه ، وربّما تداعى بعض الحسّاد إلى أن يسيئوا إليه بطريقة وبأخرى ، فالحسد إذا اجتمع مع الحسد فإن طاقته التدميرية تصبح أخطر .



8 ـ الفوز بجائزة أو بقرعة :


وقد ترى شباناً يشتركون في مسابقة معيّنة ، أو يقترعون حول أحدهم ليكون الفائز في جائزة ما،وربّما كانت حظوظهم في الفوز واحدة أو متقاربة،والأمر في النهاية راجع إلى ما تقرّره القرعة،فهي التي تحدّد مَن الفائز؟ لكنّ بعض المشتركين في المسابقة أو القرعة لا يرتاحون للنتيجة إذا كانت في صالح غيرهم،وهو أمر يكاد يكون طبيعياً،لكنّ شعور الحسد من الفائز والذي يصوّر للحاسد أنّ الفائز هو الذي حرمه من الفوز،وانّه لو لم يكن مشتركاً فربّما فاز الحاسد نفسه، فلا يبارك له فوزه ولا يهنئه على جائزته بل ينظر إليه نظرة غريم تحمل الكره لا الحبّ.


ومثل ذلك حينما يتقدّم مجموعة من الشبّان لإشغال وظيفة شاغرة،وقد يكونون أصدقاء،لكنّ قبول أحدهم،بدلاً من أن يشعرهم بالفرح لترشيح صاحبهم للوظيفة،فقد يوغر صدور بعضهم بالحسد ،فيصبح المرشح لنيل الوظيفة الشاغرة وكأ نّه منافسٌ لهم،وقد تتأثر صداقتهم به جرّاء ذلك.



ومن حالات الحسد بين الفتيات :



1 ـ الفتاة الجميلة :


الجمال ـ كمظهر خارجي ـ هبة الله ، واللواتي يحسدن الجميلات لأ نّهنّ أصبحُ وجهاً وأكثر إشراقاً ونضارة ينسين هذه الحقيقة ، وكأنّ الجميلة المحسودة هي التي صنعت محاسنها بنفسها ، أو أنّ الله فضّلها عليهنّ بحسنها وجمالها . ولذا فقد تحسدها هذه على شعرها وتلك على عينيها وهذه على فمها وأخرى على قوامها وإلى غير ذلك . وقد ينقلب حسد الحاسدات ـ في مرحلة لاحقة ـ إلى حالة من حالات الهزء والاستخفاف بالجمال المحسود .


وقد يتعدّى حسد القليلات الحظّ من الجمال إلى درجة تشويه سمعة الجميلة حتى يصرفن الأنظار عن جمالها إلى ما يتصورنه قبحاً في أخلاقها فيعزف الذي يخطب ودّها ، أو اللواتي يرغبن بمصاحبتها .




2 ـ الزينـة :


ويمتدّ حسد المظهر الخارجي من الجمال الشكلي إلى ما تضعه إحداهنّ من زينة ، فالأساور والأقراط والقلائد يذهب بريقها بالأبصار ، ولذا ترين النظرات المعلّقة في السواعد التي تلتف حولها الأساور ، ويزداد الحسد بازديادها ، فإذا كانت التي تضع الزينة جميلة

فإنّها تستثير من حسد الزميلات أكثر ما تثيره الزينة وحدها ، وربّما ينطلق الحسد من تقدير الثراء الذي تتمتع به ذات الزينة الباهضة .




3 ـ الحظوة بشاب ثري أو مرموق :


وقد يتقدّم أحد الشبان الأثرياء أو ممّن يشغل مهنة مرموقة لخطبة فتاة والزواج منها ، وهذا بحد ذاته داع من دواعي الحسد لدى فتيات لم يحظين بمثل هذا الشخص ، وربّما كنّ الحاسدات من القريبات للمخطوبة أو صديقاتها ، وقد يخالجهنّ شعور بالحسد فحواه أنّ المتقدم للخطبة لم ينتخب جيِّداً ، وكان ينبغي أن يقع الاختيار على واحدة أخرى وهي التي يضطرم الحسد في داخلها ، وربّما لم تصرّح بذلك ، لكنّها لا تفرح لفرح صديقتها وكأ نّها قد سرقت ذلك الشخص منها ، وحتى إذا أظهرت سرورها فللمجاملة .




4 ـ حالات مشتركة :


أمّا التفوق الدراسي واعتزاز المدرّسات بالطالبة المتفوقة أو الموهوبة،والجاذبية الاجتماعية التي تستقطب الفتيات،والثراء وغير ذلك من حالات الحسد بين بعض الشبان،فهي موجودة أيضاً بين بعض الفتيات وربّما بدرجة أكبر للحساسية المفرطة التي يعشنها إزاء هذا الأمر أو ذاك.


وغير خاف ، أنّ من الحالات التي يتعرّض فيها بعض الشبان والفتيات للحسد ، هي حسد الإخوة والأخوات . فقد يكون موقع أحد الأبناء في الأسرة موقع الابن الأثير أو المدلل ، أو الذي يحظى بعناية مركزة من أحد الأبوين أو كليهما .



تحـليل الحـسد :


ما هي هذه الحالة النفسية التي تجتاح الحسود حينما يرى النعمة على أخيه أو صديقه فلا يقر له قرار حتى تزول عنه نهائياً ؟ وكيف تتشكل هذه الغيمة السوداء التي تغطي سماء القلب فتحجب عنه الرؤية فلا يرى سوى الخبث واللؤم ؟


إنّ الحاسد هنا كما أ نّه (عاطل) عن تلك النعمة ولا يتمتع بها ، فإنّ نفسه تحدّثه بـ (تعطيل) ما لدى الغير من نعمة أو مزيّة أو موهبة . وقد تبيّن من الأمثلة ـ السالفة الذكر ـ أنّ الحسد ينجم عن فقدان الحاسد لمزيّة أو أكثر من مزايا المحسود ، وهو عوضاً عن تحصيلها أو الإقتداء بها ، يعمل من أجل تحطيمها عند مَنْ يتّصف بها ، ويشعر بالسرور والارتياح إذا نقضت أو زالت ، وكأ نّه يرى في المحسود إنساناً مزاحماً أو منافساً يعترض طريقه،فلا بدّ من إزاحته عن الطريق.


والمحسود ـ كما في كلّ الأمثلة ـ إنسان بريء لا يعمل عادةً على إغاظة الحاسد أو استثارة مشاعره ، فلمجرد أن يفوقه في شيء ما ربّاني أو مكتسب ، تراه يقع ضحيّة حسده وربّما شرّه المتمخض عن هذا الحسد ، ذلك أنّ الحسد إذا تفاقم واستشرى لا يبقى في حدود الحالة النفسية التي تتميّز غيظاً وتتمنّى بخبث زوال النعمة التي يتمتع بها المحسود ، بل ينطلق الحاسد ليدمّر محسوده ، ولعلّ هذا هو سرّ التعوّذ القرآني من شرّ الحاسد الذي لا يقف عند مجرد الخواطر النفسية (قل أعوذُ بربّ الفلق * من شرّ ما خلق * ومن شرّ غاسق إذا وقب * ومن شرّ النفّاثات في العُقد * ومن شرّ حاسد إذا حسد )([2]).


فالحسد قد ينقلب إلى جريمة والحاسد إلى مجرم ، والمحسود ـ في الغالب ـ بريء لا دخل له فيما تُحدّث به نفسُ الحسود ، وإلاّ فما ذنب (هابيل) إذا كان الله قد تقبّل قربانه ولم يتقبّل قربان أخيه، هل هو الذي طلب من الله ذلك ؟ هل كان يتمنّى أن يُقبل قربانهُ ويُرفض قربانُ أخيه ؟ هل استثار أو استفزّ أخاه بعدما رفض الله قربانه ، بأن عيّره أو سخر منه أو انتقص من قدره ؟


لم يحصل من ذلك شيء ، فلماذا إذن أقدم قابيل على قتله ؟


للجواب على ذلك لا بدّ من تتبّع حالة الحسد ابتداءً من نشوئها كخاطر يجول في النفس ، فالحسد حالة شيطانية تسير ضمن خطوات متلاحقة ، وعلى النحو التالي :


خاطر الشعور بالحسد والانقباض لما يمتلكه الآخر أو حالة من الكُره أو عدم الارتياح النفسي له أو الكذب والافتراء عليه واغتيابه والتقليل من شأنه والطعن بايجابياته أو الكيد والمكر والتآمر.


فالحسد قد يتحرّك كحالة نفسية تدفع إلى تمنّي زوال النعمة ممّن أنعم الله عليه ونال حظاً أوفر من متع ومقامات الدنيا ، وقد لا يريد الحاسد انتقالها إليه ، وهذه الحالة مرضية ينبغي على مَنْ يصاب بها أن لا يتركها دون علاج وإلاّ تحوّل (الحسد) إلى (حقد) أعمى .


من ذلك نخلص إلى أنّ للحسد حالتين : داخلية تعتمل في النفس فتكدّر صفو الحسود وتؤرّق ليله ولكنّه يحبسها ولا يتركها تندفع إلى الخارج .


وأخرى خارجية تطفح على السطح ، تعبّر عن نفسها بمظاهر عديدة أشدّها وأخطرها ليس تمنّي زوال نعمة الآخر بل زواله هو من الوجود ، كما فعل (قابيل) وذلك لكي لا يشكّل المحسود حالة تذكيرية أو استفزازية دائمة للحاسد .


وعلى ضوء هذه النظرة التحليلية للحسد ، يمكن القول إنّ الحسد يتناقض ـ إلى أقصى حدّ ـ مع الإيمان ، لأ نّه إساءة ظنّ بالله وبعدالته وحكمته ، ثمّ أنّ المؤمن ـ كما يُفترض فيه ـ لا يبغي ولا يستبطن الشرّ ولا يريد السوء بإخوانه وأصدقائه وغيرهم ممّن أنعم الله عليهم ، ولذلك اعتبر الحديث الشريف الحسد كشفرة الحلاقة الحادّة التي لا تبقي شعرة واحدة على البشرة فأطلق عليه اسم «حالق الدين» !




أسـباب الحـسد :


على ضوء هذه النظرة للحسد ، فإنّنا يمكن أن نشخّص العوامل والأسباب الرئيسة التي تخلق حالة الحسد في النفس ، وكما هو معلوم طبياً فإنّ التشخيص نصف العلاج :



1 ـ اللؤم والخبث وسوء الطباع :


إنّ النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي ، فالذي تحزنه أفراح الناس ويسرّه شقاؤهم ، ويتمنّى ـ من أعماقه ـ لو تمحق النعمة التي أنعم الله بها عليهم ، أو اكتسبوها بجهدهم الجهيد ، إنسان سيِّئ السريرة ، أي انّه يعيش حالة من المرض الاخلاقي الذي يجعله يرى النقص والذلّ في نفسه ، ويرى الآخر وهو منعّم بما هو محروم منه فيحسده تارة بالرغبة بأن تنتقل النعمة إليه ، وتارة بأن تتلاشى آثار النعمة عنه ، وكلا التمنيين خبث ودليل على الطبع السقيم .




2 ـ التنافس والمزاحمة :


ولمّا كانت الدنيا دار لهو ولعب وتفاخر وتكاثر ، فإنّ السباق فيها محموم لدرجة الرغبة الطاغية لدى بعض المتسابقين أن يروا منافسهم مصاباً بإصابة معيقة حتى لا يدخل معهم ميدان السباق . فالتنافس إمّا أن يكون شريفاً بحيث يقود إلى النتائج الطيبة ويستنفر الطاقات

ويطوّر الإمكانات والمواهب في طريق الخير والإبداع وهو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى : (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )([3]).




وإمّا أن يكون تنافساً مريضاً يؤدي إلى الحسد والبغضاء والتحاقد وربّما انتهى إلى الثأر والانتقام . ولذا تجد أنّ التحاسد بين أصحاب الحرفة أو المهنة الواحدة على أشدّه ، لأ نّهم يتنافسون على الزبائن وكسب السمعة وزيادة الأرباح ، وإزاحة المنافسين عن الطريق باتباع أساليب رخيصة في التشويش والتشويه ، فما لم يتمكّنوا من تحقيقه في خط مستقيم لا يتورعون عن بلوغه في السير بخط مائل .




3 ـ الأنانيـة :


فالحسود لا يفكّر إلاّ بنفسه حتى وهو يفكّر بالمحسود ، ذلك لأنّ تفكيره ينصبّ على مزايا الشخص المحسود لأ نّه يشعر بالنقص ويرى الكمال في محسوده ، في الوقت الذي يتوق فيه بل يتحرّق إلى أن يكون المتفوّق المتفرّد بين أصحابه وأقرانه ، ولأ نّه لا يرى إلاّ نفسه فهو لا يطيق رؤية غيره أفضل منه حتى ولو كانت أفضليته في شيء تافه أو حطام دنيوي لا قيمة معتبرة له .



4 ـ استكثار النعمة :


فالحسود يستكثر النعمة التي يتمتع بها المحسود ، وربّما رأى أ نّه لا يستحقها وبالتالي فهو يتهم الله في عدالته ، وكنتيجة لذلك تراه يزدري الحسود وينتقص من قدره ، ويحاول بصورة وبأخرى أن يشوّه نصاعة النعمة أو المزيّة التي يمتاز بها محسوده في محاولة خبيثة لذرّ الرماد في العيون حتى لا يرى غيره حسنات محسوده فيعجبون به ويميلون إليه .




5 ـ التقدير السيِّئ للأمور :


الحسود لا ينظر إلى الأمور نظرة طبيعية ، فالحسد الذي يغلي في داخله يجعله يبالغ في تقويم النعم والمزايا والمواهب التي يمتلكها الآخرون للدرجة التي يتصور معها أ نّه يتعذّر عليه الوصول إلى ما وصلوا إليه ، وهذا هو السبب الذي يدفعه إلى أن يتمنّى نسف تلك المزايا والنعم عنهم حتى لا يبدو الفارق كبيراً بينه وبين محسوديه .


ولو أنّ الحسود أعاد النظر في الأمور المبالغ فيها ، ورأى أنّها تقع في حدود الإمكان ، وأ نّه وإن افتقد بعض ذلك ، فهو يمتاز على غيره بما يفتقدونه ، وبالتالي فإن هذه النظرة المتوازنة سوف تجعله يحاصر خواطر الحسد في نفسه بل ويحاسبها عليها حتى لا تتحوّل إلى حالة سلبية ضاغطة تتحكم في مشاعره وسلوكه .




أضـرار الحـسد :


هناك نقطة جوهرية تسترعي انتباه الشبان والفتيات إليها ، ليس في الحسد وحده بل في سائر الأمراض الأخلاقية الأخرى ، وهي أن أيّ مرض من هذه الأمراض ، ونسمّيه مرضاً لأ نّه ليس حالة طبيعية أو سويّة أو صحّية ، هو مرض نفسيّ أو روحيّ ، وقد ثبت علمياً أنّ المرض النفسي ذو انعكاسات سلبية ـ طفيفة أو حادّة ـ على سلامة الجسم وأجهزته العضوية .


فما من مرض نفسي أو أخلاقي يصاب به الانسان إلاّ وتطفو آثاره على الجسد مرضاً ما . وقد يستخفّ البعض من المرضى بتشخيص الطبيب إذا قال له : إنّ هذا المرض الذي تعاني منه ولنفترض أ نّه (القرحة المعوية) هو مرض نفسي ، أو أنّ (الأرق) الذي يلازمك له أسباب نفسية . فقد تكون هناك أسباب وعوامل أخرى تؤثر على الصحّة البدنية ، إلاّ أنّ (الحسد) مثلاً يخلق حالة من التسمّم النفسي الذي يؤثر على إفرازات المعدة وأدائها فيربك عمليات الهضم والتمثيل ، وإذا اضطربت المعدة جرّاء الوضع النفسي الذي ينتجه الحسد أو غيره ، فإن ذلك سينعكس كمرض عضوي في واحد أو أكثر من أجهزتها الدقيقة والمتأثرة بما يجري في الخارج ، حيث ثبت أيضاً أنّ الأمراض المذكورة تزول بزوال المؤثر ، وقد لا تنفع معها الأدوية والعقاقير والمسكّنات ، فيما تنفع معها أساليب العلاج النفسي والابتعاد ـ ما أمكن ـ عن مواطن الإثارة ، وإلاّ ما الربط بين (الأرق) وبين قراءة القرآن ، أو الإكثار من الذكر ، أو الصلاة ، أو قراءة بعض الأحاديث والروايات ، أو بعض الأدعية ؟!


من ذلك نخلص إلى أنّ أضرار الأمراض الأخلاقية لا تنحصر في التسبّب باضطرابات نفسية وإنّما لها أعراض جانبية جسدية أيضاً ، ويمكنك التأكّد من ذلك من خلال قراءة المجلاّت أو النشرات الطبية والصحّية المتخصّصة التي تقدِّم نتائجها على ضوء دراسات ميدانية أو سريرية أو استبيانية كاشفة عن ذلك .



فمن الأمراض النفسية التي يتسبّب بها الحسد :



1 ـ الشقاء النفسي :


لعلّك سمعت المقولة الشائعة التي تقول : (الحسود لا يسود) فهل سألتَ نفسك هذا السؤال : لماذا لا يسود الحسود ؟


لا يسود ، لأ نّه لا يصل إلى ما يريد ، فتراه يعيش السخط والحسرة والحقد والألم ، وكلّ هذه الأشياء مانعة من أن يصل الانسان إلى السيادة التي تتطلب نفساً كبيرة وصدراً رحباً وقلباً محبّاً للناس .


فحياة الحسود ، أيامه ولياليه ، مكدّرة دائماً لأ نّه يعيش الاضطراب

والعبوس والقتامة طالما هو في لقاء مع الناس ، وإذا استشرت حالة الحسد عنده فلا يسلم من حسده أحد حتى الأطفال الصغار الأبرياء الذين يراهم يلهون بانشراح وحبور ، ولأ نّه يعيش الكآبة الدائمة ، فإنّه يحسدهم على ما هم فيه من نعيم ! فتصوّروا !!




يقول الإمام علي (عليه السلام) : «ما رأيتُ ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد : نفسٌ دائم ، وقلبٌ هائم ، وحزنٌ لازم» .


إنّ الحسّاد يُعذّبون أنفسهم بأنفسِهم كلّما فسحوا المجال للحسد في أن يأكل قلوبهم ويسوّد الدنيا بأعينهم ، ذلك أنّ الحسد ـ كما شبّهه أحد الشعراء ـ كالنار تأكل بعضِها إن لم تجد ما تأكله ، فهل شقاء وعذاب نفسيّ أكبر من هذا ؟




2 ـ تلوّث السمعة :


قد يكتم الحاسد حسده في نفسه فلا يظهره في فلتات لسانه وملامح وجهه وتصرّفاته وأفعاله ، ولكنّ بعض الحسّاد لا يتمكنون من إخفاء حسدهم ، الأمر الذي يجعل المقربين منهم يشعرون بما يعانون منه فيخشون على أنفسهم من هؤلاء الحسّاد ، ولذا فلا ترى حسوداً محبوباً أو ممدوحاً أو لديه أصدقاء كثيرون ، بل على العكس من ذلك ، تراه موضع هزء وسخرية وامتعاض ونفور من قبل الآخرين الذين يتقون الحاسد ويهربون من شروره ، وقد يُحاصَر الحسود فيُعتزَل لأ نّه لا يجد مَنْ يؤيده في موقفه ، ولذا يعيش محتقراً منبوذا .




3 ـ التخطيط للإيقاع بالمحسود :


سبقت الإشارة إلى أنّ الحسد الذي يبقى في دائرة الخواطر النفسية لا خطورة فيه لأنّ صاحبه لا يرتّب على خواطره أثراً ، أمّا إذا استحكمت عقدة الحسد عند الحاسد فإنّه يُعمل ذهنه من أجل التخريب والإيقاع بالمحسود وتهشيم سمعته وكرامته وتمريغ مزاياه بالوحل . فتراه ينسج الأكاذيب والتهم الملفّقة والفتن الغريبة للتفريق بين محسوده وبين محبيه ومريديه ، وهذه الأمور لا تنبعث إلاّ من نفس شيطانية قاتمة سوداء محتقنة .




4 ـ الشعور بالتكبّر :


لا غرابة في أن تجد بعض الأمراض الأخلاقية تنفّذ بعضها على البعض الآخر ، فتصبح كالامراض المركبة التي تستعصي على العلاج ، لأنّ اجتماع الشرور والخبائث والمساوئ في النفس يجعلها عرضة للأمراض المستديمة ، فترك المرض الأخلاقي من غير علاج يجعل علاجه في المستقبل صعباً ، كما أ نّه يشكّل تربة خصبة أو بؤرة لأمراض أخرى .


فالحسود حينما يستفحل حسده فإنّه لا يكتفي بأمنياته القديمة في زوال النعم التي يتمتع بها محسودوه ، بل يصل به الأمر إلى التكبّر عليهم ، كالجاهل الذي يتكبّر على العالِم فلا يحضر دروسه ومواعظه حسداً من عند نفسه .




5 ـ منفذ اختراق :


وقد يستغل البعض ممّن يحمل ثأراً معيّناً من شخص ما حسدَ الحاسدين له فيتخذون من حسدهم نقطة اختراق ينفذون منها لتدمير الشخصيات البارزة أو ذات الموقع الاجتماعي والثقافي المؤثر أو أي انسان مرموق ، أي أنّ النوايا السيِّئة تلتقي عند الأعداء وعند الحاسدين ليشتركا في تحطيم المحسودين .




6 ـ التعرّض لسخط الله :


وبالإضافة إلى ما يعانيه الحسود في الدنيا من متاعب نفسية جمّة ، فإنّه سيفد على الله ونفسه محمّلة بالآثام والأوزار ، فلقد أساء الظنّ بالله وطعن بعدالته وسخط على مشيئته ، وقد تعرّض لأولياء الله من المؤمنين والعاملين أو الذين أنعم الله عليهم ، بالسوء والإفتراء والغيبة والمكر والتآمر وربّما تحطيم حياتهم . وربّما تعرّض الحسود إلى محبّي ومريدي المحسود فنالهم منه شرٌّ مستطير ، وهو أخطر أنواع الحسد وأشدّها إذ لا يقتصر على المحسود فقط ، ولذا قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «الحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل» .




أمّا أضرار الحسد (العملية) فيمكن تلخيصها بكلمة واحدة : الحسد عجز وركودٌ وتناقص . فكيف ذلك ؟


إنّ الحسود وهو دائم الهمّ والحزن والإنشغال بتحطيم نفسه وتحطيم (غريمه) و (خصمه) و (منافسه) البريء الذي يسلّط عليه نيران حقده وحسده ، إنّما يعطّل طاقاته ويجمّدها ، أو لنقل إنّه يجعلها تسير في اتجاه واحد فقط وهو خط السوء والبغضاء والشرّ والانتقام ، ولذا فإنّه (ينمو) في الجانب السلبيّ حيث يتفتق ذهنه عن اجتراح المنكرات والأساليب الانتقامية والتدميرية التي يخوض بها معركة التخلّص من محسوده .


وفي موازاة هذا (النمو) السلبيّ تراه يأخذ بالتناقص والانحدار والتداعي في قواه الخيّرة ، ذلك أنّ النباتات الضارّة إذا نبتت في حديقة القلب حجبت الكثير من الماء والهواء والضوء عن النباتات النافعة .




السعي لعلاج الحسد :


كما في كلّ الأمراض الأخلاقية والنفسية فإنّ العلاج يأتي من الداخل وليس من الخارج ، وما لم يتم القضاء على العوامل المسببة للمرض يتعذّر إيجاد علاج شاف منه .


المهمّة ليست صعبة وإن بدت لأوّل وهلة كذلك .


فكما يمكن تعويد النفس على السيِّئ من الأمور ، يمكن ترويضها على الحسن الإيجابي منها ، وإن كانت المهمّة هنا أصعب لأ نّها مخالفة لهوى النفس ورغباتها ومشتهياتها ، لكن ينبغي أن لا ننسى شيئاً مهماً وهو أن مردودات ومكاسب (الترويض) أكبر وأكثر .



دعونا إذن نتتبع العلاج ضمن خطوات :


الخطوة الأولى : أن نضع إصبعنا على موضع الداء ، أي نختبر أنفسنا لنكتشف هل أن داء الحسد قد تسرب إليها ، وكيف تتعامل مع تفوّق الآخرين واحترام الناس لهم وإعجابهم بما لديهم من مواهب وملكات .



الخطوة الثانية : أن نتحسّس مخاطر المرض وآثاره الوخيمة الداخلية والخارجية . فقد لا يذهب إلى الطبيب الذي لا يشعر بخطورة المرض أو يستسهله ، لكنّه إذا عرف أ نّه مرض خطير بادر إلى علاجه.



الخطوة الثالثة : دراسة أسباب الحسد في كلّ حالة ومناقشتها مناقشة علمية وصريحة ، فقد تختلف أسباب الحسد من حالة إلى أخرى . والغاية من دراسة الأسباب هو السعي لتجفيفها وردمها قبل أن تصبح حفرة عميقة يصعب الخروج منها .



الخطوة الرابعة : وصفة العلاج ، وهي وصفة تشتمل على بنود عديدة ، منها :


1 ـ أن نتذكّر دائماً أنّ النِّعَم هبات إلهية ولا تقاس بالاستحقاق وعدم الاستحقاق ، فحكمة الله أبلغ وأوسع من مداركنا (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله )([4]) .


2 ـ لنتذكّر أيضاً ، أنّ المحسود لا يقصد ـ في الأعمّ الأغلب ـ الإساءة إلينا ، أو إثارة حالة الحسد داخل نفوسنا ، فلِمَ نحاربُ إنساناً بريئاً أو نشهر العداوة ضدّه ؟!


3 ـ لنتعلّم .. أن نتطلّع إلى ما في أيدينا من نِعم ومواهب وخصائص ، ولا يكون أكبر همّنا أن نمدّ أعيننا إلى ما متّع الله به غيرنا .. فالعيون المتطلّعة إلى الأعلى تتعب(([5])) .. أكثر النظر إلى مَنْ هم دونك ، فهو نظرٌ يحمل إليك الكثير من المشاعر الرضية الشكورة .


4 ـ أن نتذكّر أنّ امكانية السعي للحصول على ما لدى الغير أو بعضه أو أكثر منه ، متوافرة خاصّة إذا امتلكنا إرادتنا وعزمنا وتصميمنا على بلوغ ما نتمنّى . وهذه ليست وصفة تسكينية ، فلعلّك جربتَ في حياتك كيف أنّ الإرادة ـ كما يقال ـ تصنع المستحيل أو تقهره .


إنّ السعي بحد ذاته يخفّف من مشاعر الحسد وربّما يزيلها تماماً ، أو يقلبها إلى (منافسة شريفة) أي التنافس في الخيرات والإبداع والتنمية والتطوير .


5 ـ نمِّ ما لديك من نقاط إيجابية ومزايا طيبة ومواهب أوّلية حتى تكون مرموقة .


6 ـ لنتذكر دائماً .. مساوئ الحسد وأضراره وشروره وما فعله بالحسّاد من قبل ، وليردّد مَنْ يشعر بالحسد قول الشاعر :


لله درُّ الحسد ما أعدله***قد بدأ بصاحبهِ فقتله !


والعاقل ـ كما يقال ـ مَنْ اتّعظ بغيره ، فهل أرتضي لنفسي أن أكون طُعمة للحسد يأكلني ليلاً ونهاراً ، وأنا أتفرّج على مشهد افتراسي دون أن أضع حدّاً أو نهاية لاسترساله في نهش قلبي ومشاعري ؟!


7 ـ لنقرأ في عيون الناس وملامحهم وانطباعاتهم ومواقفهم من الحاسدين ، لنرى كيف أ نّهم ينبذون الحسود ويمقتونه ويهربون منه هروبهم من النار المحرقة . ولندِر البصر لنرى الحسّاد كيف يُحشرون في الزوايا الضيّقة .. مهملين .. محتقرين قد انفضّ الناس من حولهم .


8 ـ حاسب نفسك عند كلّ حالة حسد .. ولا تدعها تمرّ وأنت ساكت أو راض .. اعتبر ذلك حالة مشينة .. ربِّ في نفسك حالة التأنيب الداخلي ، فذلك سبيل مهم من سبل تطويق الحسد ومحاصرته تمهيداً لقتله .


وربّما كان نافعاً أيضاً أن تستثير في نفسك حالة الشعور بالإثم ، بأن تقول : هذه معصية .. هذه كبيرة .. هذا عملٌ يُسخط الله .. إلخ .


9 ـ راجع حالات الحسد التي تقدّم ذكرها في البداية .. ادرسها بنفسك .. حاول أن تواجه كلّ حالة بعكسها ، فإذا دعاك الحسد إلى طمس فضائل الآخرين .. خالفه وانشر تلك الفضائل .. وإذا حملكَ على التكبّر فجابهه بالتواضع .. وإذا دعاك إلى احتقار الآخر فقابله

بالاحترام والتقدير ، وإذا وسوس لك باغتيابه فأكثر من مدحه والثناء عليه ، وإذا ضغط عليك لتقاطعه أو تهجره فقابل ذلك بالألفة والتواصل .




فردود الأفعال هذه ستكون لها آثار إيجابية على نفسيتك ، وستجد أ نّك أكبر من خواطر شيطانية تريد أن تحبسك في زنزانة الحسد الضيقة .


10 ـ قوّ الحالة الإيمانية لديك .. التقوى والورع يمكن اكتسابهما

بالتربية الخاصّة ، والمفردات السابقة كلّها تزرع في داخلك هاتين الملكتين ، فإذا اتقيت الله في أخيك ولم تبغِ عليه بحسدك ، وإنّما تمنّيت له المزيد من التوفيق والنعم ، فإن ذلك سوف يحقق لك أكثر من مكسب ، فعلاوة على أ نّك تكسب مودّته ومحبّته وعرفانه بلطفك ، فإنّ الله سيرزقك مثله وزيادة ، وستعيش هانئاً قرير العين .




11 ـ راجع كتب الأخلاق والمواعظ التي قيلت في علاج الحسد ، والدراسات التي تضع خطوات عملية لمجابهته ، وستجد فيها ما يأخذ بيدك في طريق المكافحة .


12 ـ اعمل بنصيحة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأ نّها مجرّبة وذات أثر فعّال ، فلقد قال لأصحابه ذات يوم : «ألا إنّه قد دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم وهو الحسد ، ليس بحالق الشعر ، لكنّه حالق الدين ، وينجّي منه أن يكفّ الانسان يده ، ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن» .


فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا يقدِّم لنا وصفة علاجية ناجحة للحسد ، في قوله «وينجِّي منه» ، فالنجاة من الحسد ترتكز على ثلاث ركائز :


أ . كفّ اليد : أي أن لا يتحرك الحسد من حالة نفسية داخلية إلى ممارسة للعنف مع المحسود في الخارج ، كما فعل (قابيل) مع (هابيل) فقد بسط إليه يده ليقتله .


ب . حبس اللسان : فلا يطفح الحسد من الداخل إلى اللسان بكلمات الفحش والبذاءة والتسقيط والسُّباب والتشهير والغيبة والبهتان ، فتلك روائح منتنة لا تنبعث إلاّ من القلب الآسن الذي تنمو فيه طحالب الخبث والسوء والرذيلة والتشفّي .


ج . لا تكن غمّازاً:والغمز هو الطعن في سمعة وقدرات ومواهب المحسود من أجل إسقاطه في نظر الآخرين،لأنّ الحاسد يريد أيضاً أن يؤلّب غيره على محسوده حتى لا يبدو الحاسد الوحيد.


وقد طرح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) العلاج المذكور بصيغة أخرى في حديث آخر ، حيث يقول : «وإذا حسدت فلا تبغِ» أي يجب أن لا يتطوّر الحسد لديك إلى حالة بغي وعدوان ومكيدة وحقد أعمى .


الخطوة الخامسة : واظب على العلاج .. واحمل نفسك على تطبيقه .. ولا تضع الدواء على الرف دون أن تستخدم منه شيئاً ، وإلاّ مكنتَ داء الحسد من أن يكون عقدة مستحكمة .




قيمة (الغِبطة) :


(الغبطة) هي موقف معاكس لـ (الحسد) فالحسد سلبيّ والغبطة إيجابية ، وطالما أنّ الحديث عن العلاج ، فإنّنا نفرد لهذه الخطوة العلاجية حديثاً خاصاً .


فإذا كان الحسد يعني تمنّي زوال نعمة الغير أو انتقالها إلى المحسود ، فإنّ الغبطة هي تمنّي نعمة مماثلة للنعمة التي يتمتع بها المحسود . فأنت حينما تتمنّى أن تكون لديك نعمة أو خصلة أو مزيّة من مزايا الشخص الآخر ، إنّما تضع في الحساب أنّ الله واسع الرزق واسع الرحمة ، وكما أنعم على أخيك أو صديقك أو أي إنسان آخر بنعمة ما ، فإنّه قادر على أن يمنّ عليك بمثلها ، ولا يُحدث ذلك نقصاً في خزائنه التي لا تنفد ، وهو عليه سهلٌ يسير .


بينما الأمر في الحسد مختلف ، فأنت هناك تضيّق واسعاً فترى أنّ رحمة الله ورزقه ولطفه وعنايته محصورة بالشخص المحسود ، وحتى تنعم بها لا بدّ من زوالها منه وانتقالها إليك ، في حين أ نّك تعرف أنّ نعم الله لا تعدّ ولا تحصى وهي تفوق الكمّ البشريّ الهائل منذ الخليقة وحتى النشور .


يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «قال الله عزّ وجلّ لموسى بن عمران : يا ابن عمران ! لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدنّ عينيك إلى ذلك ولا تُتبعهُ نفسك ، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي ، صادٌّ لقسمي الذي قسمتُ بين عبادي ، ومَنْ يكُ كذلك فلستُ منه وليس منِّي» .


ولذا فإنّ وعي المُغتَبِط أو الغابِط الذي يتمنّى أن يكون له مثل ما لغيره دون أن يحيف أو يسيء الظن أو يمارس البغي ، وعيٌ إيمانيّ راجح يعبّر عن نفس زكيّة ، فهو لا يغلق الباب على نفسه في التمنّي على دائمِ الفضلِ على الناس والباسط يديه بالعطاء ، ولا ينظر نظراً شزراً إلى ما لدى الآخرين من نعم ، بل هو يتمنّى لهم أن ينعموا ويهنأوا فيما هم فيه ، وأن يزيد الله عليهم من فضله وبركاته ، ولذا تراه إذا رأى النعمة عند غيره ذكر الله ، وقال : «بسم الله ما شاء الله» يريد بذلك أنّ إرادة الله هي الحاكمة ونحن لا نملك إلاّ التسليم لها .


إنّ المغتبط ـ على عكس الحاسد ـ يعيش النقاء الروحيّ الذي ينطلق من التعامل مع المُنعِم مباشرة وليس مع المُنعَمْ عليه ، لأ نّه يرى أنّ هذا ـ مهما كان غنياً ـ فهو فقير مثله ولولا فضل الله ونعمته عليه لما ظهرت عليه آثار النعمة (يا أ يُّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد )([6]) .


ونخلص من ذلك ، إلى أنّ الاسلام يهتم بـ (الدافع) و (المحرّض) و (المحرّك) و (النيّة) فالدافع في الحسد شرير سواء على مستوى التفكير أو مستوى التخطيط للتدمير ، في حين أنّ الدافع في (الغبطة) خيّر في التفكير وفي إرادة الخير للذات وللغير .



وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين




([1]) لا نريد هنا الخوض في بحث العدل الإلهي في جانبه العقائدي بشكل تفصيلي ، وإنّما نريد تسليط الضوء على الجوانب العملية الملموسة من أسباب وآثار هذا التفاوت .
([2]) الفلق / 1 ـ 5 .
([3]) المطففين / 26 .
([4]) النساء / 54 .
([5]) قد يقول شاب أو فتاة إذا أدمنا النظر إلى مَنْ هم دوننا فإنّنا سوف لن نتطوّر ، وهذا الكلام صحيح على صعيد الفضائل الخُلقية والإرتقاء بالمستوى العلمي وتطوير الأداء العملي أمّا الماديات والشكليات فمن طبيعتها أنّها ترهق كواهلنا النفسيّة .

([6]) فاطر / 15 .
ماهو المرجع لهذا المرجع

 

رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 المكتبة العلمية | المنتدى | دليل المواقع المقالات | ندوات ومؤتمرات | المجلات | دليل الخدمات | الصلب المشقوق وعيوب العمود الفقري | التوحد وطيف التوحد  | متلازمة داون | العوق الفكري | الشلل الدماغي | الصرع والتشنج | السمع والتخاطب | الاستشارات | صحة الوليد | صحة الطفل | أمراض الأطفال | سلوكيات الطفل | مشاكل النوم | الـربـو | الحساسية | أمراض الدم | التدخل المبكر | الشفة الارنبية وشق الحنك | السكري لدى الأطفال | فرط الحركة وقلة النشاط | التبول الليلي اللاإرادي | صعوبات التعلم | العوق الحركي | العوق البصري | الدمج التربوي | المتلازمات | الإرشاد الأسري | امراض الروماتيزم | الصلب المشقوق | القدم السكرية



الساعة الآن 10:30 AM.