#1  
قديم 03-17-2011, 07:41 PM
الصورة الرمزية زهرة الشمال
زهرة الشمال زهرة الشمال غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2008
المشاركات: 110
افتراضي التفكك الأسري

 

التفكك الأسري

د. أمينة الجابر

من الحقائق التي لا خلاف عليها بين علماء الاجتماع والتربية والفكر الإسلامي أن الأسرة عماد المجتمع، وقاعدة الحياة الإنسانية، وأنها إذا أسست على دعائم راسخة من الدين والخلق والترابط الحميم، فإنها تكون لبنة قوية في بنيان الأمة، أو خلية حية في جسم المجتمع، ومن ثم كان صلاح الأسرة هو السبيل لصلاح الأمة، وكان فسادها أو انحلالها مناط فساد المجتمع أو انهياره.

ولأهمية الأسرة البالغة كان الاهتمام الكبير الذي أولته التشريعات الإلهية والقوانين الوضعية لها، خاصة الشريعة الإسلامية التي بعث بها خاتم النبيين محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام للناس كافة . . فقد قرر الإسلام المبادئ والقواعد التي تؤسس عليها الأسرة، والتي تكفل لها حياة فاضلة تقوم على معاني المودة والرحمة والسكن والوئام والسلام، قال الله تعالى: (ومن ءايته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوآ إليها وجعل بينكم مودة ورحمةً إن في ذلك لأيتٍ لقوم يتفكرون ) (الروم:21).

وظلت الأسرة المسلمة عبر مراحل التاريخ الإسلامي تتمتع بقسط وافر من القيم الإسلامية، قيم الترابط والتراحم والتعاطف والتآلف والتكافل، وقيم الإحسان والتعاون على البر والتقوى، قيم احترام الكبير والعطف على الصغير، قيم الإيثار والمحبة والكلمة الطيبة، وصلة الرحم، ومن ثم كان لها دورها الفاعل في حياة الأمة والمجتمع وقوتها ونهضتها . . وكان لها القيادة والريادة والسبق الحضاري الذي أنار للغرب طريق العلم والتقدم.

وفي العصر الحديث هبت على الأسرة رياح التغريب، وساعد على ذلك تخلف العالم الإسلامي وخضوعه للاحتلال الغربي، ولم يكن هذا الاحتلال غزواً للأرض وانتهاباً للثروة، وامتهاناً للكرامة فحسب، وإنما كان إضافة إلى هذا غزواً للعقول والموروثات والتقاليد والأعراف، وسلباً للشخصية المسلمة، مما زحزح الأسرة عن خصائصها وقيمها . . ففقدت ريادتها للمجتمع، فلم تعد كما كانت تجمع بين أفرادها قيم الترابط والتراحم.

ومن هنا . . ظهرت مشكلة التفكك الأسري، التي باتت تنذر بشر مستطير إذا لم يسع أهل الفكر والذكر والعقلاء إلى وضع الحلول العملية لها، حتى تجتاز الأسرة المسلمة مرحلة التذبذب والحيرة بين القيم الإسلامية والقيم الوافدة بما تمثله من أعراف ومفاهيم غريبة تنأى بهذه الأسرة عن هويتها وأصالتها.

ونظراً لأن ظاهرة التفكك الأسري لها أبعادها المختلفة، ولأنه لا مجال لدراسة كل هذه الأبعاد، أقصر حديثي عن هذه الظاهرة فيما يلي:

أولاً: المنهج الإسلامي للحفاظ على الأسرة وعلاج مشكلاتها.

ثانياً: أسباب التفكك الأسري

ثالثاً: آثار التفكك الأسري.

أولاً: المنهج الإسلامي للحفاظ على الأسرة وعلاج مشكلاتها:

يتركب هذا المنهج من عدة دعائم، أهمها:

* الرغبة المتبادلة والاختيار المطلق والرضا الكامل، فالحياة الزوجية ينبغي أن تتحقق لها هذه الدعامة حتى يمكن أن تكون حياة مستقرة، يأنس كل طرف فيها إلى شريك حياته ورفيق عمره، ولهذا لا يجوز أن تزوج امرأة بغير رضاها، ولا يكره رجل إلى العيش مع امرأة ينفر منها ولا يميل إليها، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصُمُوت ))(1).

ويؤكد ابن القيم ((المتوفى سنة 751هـ )) حق المرأة في الموافقة والرضا بقوله: ((إن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من ملكها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه، فكيف يجوز له أن يتصرف فيها هي بدون رضاها، ومعلوم أن إخراج مالها بغير رضاها أسهل عليه من تزويجها بمن لا تريد؟! ))(2).

وإذا كان الرضا والرغبة المتبادلة في حياة زوجية أمراً مشروعاً فإن الرؤية مشروعة أيضاً ليكون هذا الرضا جدياً ومنبثقاً من شعور ورغبة وقائماً على حقيقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ))(3)، أي فإنه أدعى إلى أن يبارك بينكما، فتجتمعا على وفاق وخير، وتتعاونا على ما فيه صلاح أمركما ومستقبلكما.

ولحرص الإسلام على أن تؤسس الأسرة على دعامة راسخة من الرغبة الصادقة كانت الخطبة مرحلة تمهيدية تسبق عقد الزواج، بحيث إذا آنس كل من الرجل والمرأة في هذه المرحلة من نفسه الاطمئنان إلى من يقترن به، قام عقد الزواج على دعامة متينة ترجى معها العشرة الحسنة، والحياة الزوجية الآمنة المطمئنة.

* القيم الثابتة عماد الاختيار:

يحض المنهج الإسلامي في اختيار شريك العمر على أن يكون عماد هذا الاختيار القيم الثابتة وعدم الاغترار بالقيم الزائلة، ولذلك كان الدين والخلق الطيب دعامة أساس في هذا المنهج، وكان ما سوى هذه الدعامة كالجمال والمال والحسب مساعداً له بعد توافر عنصر الدين والخلق . . فهذا العنصر هو الذي يحمي الحياة الزوجية من بوادر النشوز والإعراض، ولـه دوره الفاعل في التغلب على ما قد يعترض الأسرة من مشكلات تهدد أمنها واستقرارها، فضلاً عن أنه يهيئ الجو الصالح لتربية الأبناء تربية سليمة.

والآثار كثيرة في الحض على أن يكون الاختيار في الزواج مناطه الاعتصام بحبل الله . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) (1) وقال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )) (2).

وقد حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الزواج من المرأة الحسناء التي لا تتمتع بالدين والخلق العظيم، لأنها نشأت في بيئة فاسدة، قال: ((إياكم وخضراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء )) (3).

ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما يروى عنه أن الاهتمام بأعراض الحياة الدنيا في الزواج مجلبة للشقاء والتعاسة، فقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل )) (4).

ولا يعني دعوة الإسلام إلى أن يكون الدين والخلق قوام الحياة الزوجية أنه ينبذ المال والجمال وما إليهما، ,وإنما يعني أن يكون الدين والخلق الشرط الأساس لقيم علاقة مقدسة وميثاق غليظ . . المهم إسلامياً أن يتمتع الرجل والمرأة بالدين والخلق.

* مراعاة الكفاءة بين الزوجين:

ويقتضي الحديث عن حسن الاختيار وما يجب أن يتمتع به كل من الزوجين من الدين والخلق، والإشارة إلى موضوع الكفاءة، فلهذا الموضوع صلة وثيقة بحسن الاختيار وآثاره في منهج الإسلام في حماية الأسرة.

والكفاءة(1) يراد بها أن يكون بين الزوجين قدر من التقارب في أمور مخصوصة يعتبر الإخلاء بها مفسداً للحياة الزوجية.

ومع اختلاف آراء الفقهاء في الأمور المخصوصة التي ينبغي أن يكون بين الزوجين تقارب فيها وليس المساواة الكاملة، فإنهم متفقون على أن الدين والخلق والصلاح والتقوى أساس الكفاءة بين الزوجين، وأن ما سوى هذا من الحرفة والمال والحسب لا يراد بها التفريق بين الناس والحكم عليهم بأنه طبقات اجتماعية لكل منها منزلتها الخاصة، وإنما يراد بها أن يكون بين الزوجين قد من التقارب في المستوى الاجتماعي والمبادئ، فذلك أنفى للشقاق، وأدعى للوفاق والوئام، وأجدر أن يجعل من الزواج خير علاقة توثق عرى المصاهرة، وتوسع دائرة الأسرة .. فالعلاقة الزوجية ليست مجرد علاقة بين فردين، ولكنها مع هذا علاقة بين أسرتين.

فالفقهاء فيما صدر عنهم من آراء في موضوع الكفاءة والمعاني المعتبرة فيها لم يكونوا في غفلة عن أن الإسلام دين الأخوة والمساواة، وأن التفاضل بين الناس في هذا الدين مناطه تقوى الله عز وجل، ولكنهم توخوا مصلحة الأسرة وصلة المصاهرة، وراعوا مشاعر المرأة إذا ما تزوجت من دونها منزلة. فهي وإن رضيت به لا تسلم من نظرات النقد والتعيير، حتى ممن رضيت به زوجاً، فتضيق بحياتها مع هذا الزوج، وتبدأ مرحلة النفور منه وعدم النزول على مقتضى قوامته وسلطانه، وقد يستغل قوامته استغلالاً مسيئاً لها، فتضطرب الحياة الزوجية، ويسودها التفكك والشقاق، ويكون التفريق.

على أن الكفاءة ليست من شروط صحة العقد، وإنما هي شرط لزوم، فالعقد بدونها يقع صحيحاً نافذاً، ولكنه قابل للفسخ، إذ يجوز لولي الأمر أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد لعدم الكفاءة، والقاضي يجيبه إلى طلبه بشرط ألا تكون المرأة قد حملت أو ولدت، محافظة على الولد.

* قيام عقد الزواج على التأبيد:

يمتاز عقد الزواج في الإسلام على سواه من العقود بأن موضوعه الإنسان، أكرم المخلوقات، ومن ثم كان هذا العقد من أهم العقود وأكرمها، ويتجلى ذلك في قيامه على التأبيد والدوام، فلا يعرف التأقيت أو التحديد، وهو أمر يتلاءم مع وظيفة الأسرة في المجتمع ورسالتها المقدسة في الحياة.

ولا تناقض بين جواز التفريق بين الزوجين في الإسلام مع قيام عقد الزوجية على الدوام، لأن الإسلام يريد لهذا العقد أن يكون تعبيراً عن علاقة زوجية تفيض بمعاني الاستقرار والسكن والمودة والرحمة، فإذا اضطرب جو الأسرة وساءت العلاقة بين الزوجين إساءة بالغة، وباءت كل محاولات الإصلاح والتوافيق بالبوار، فإن الإسلام يبيح انفصام هذا العقد تحت ضغط الضرورة الملجئة، لأن هذا خير من استمرار علاقة زوجية لا تعرف غير الشقاق والصراع، ولهذا كان الرأي الراجح أن الأصل في تشريع الطلاق هو الحظر وإنما يلجأ إليه عند الاضطرار والضرورة.

إن قيام عقد الزواج على التأبيد، وأن انحلاله لا يكون إلا بوفاة أحد الزوجين أو كليهما، يؤمئ إلى مسؤولية كل من الرجل والمرأة عن حماية هذا العقد، وتجنب كل ما يؤثر على رابطة العلاقة الزوجية، ومقاومة مشاعر الكراهية والنفور، قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللهُ فيه خيراً كثيراً )

(النساء: 19).

وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرك ـ أي لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ))(1).

فإذا وقع خلاف بين الزوجين فإن الإسلام يحثهما على الاستقلال بإصلاح ما شجر بينهما من خلاف إن استطاعا، قال سبحانه: (وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلحُ خيرٌ ) (النساء: 128)، فإن عجزا بعث ولي الأمر من أهلها من يصلح بينهما، قال الله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلهآ إن يريدآ إصلحاً يوفق الله بينهمآ ) (النساء: 35).

فإن لم يجد كل ذلك في إصلاح ذات بينهما فقد تبين أنه لا مصلحة لأسرة ولا للأمة في هذا الارتباط، ومن ثم شرع الله الطلاق في أضيق الحدود دفعاً للمضار التي تنشأ من اجتماع الزوجين على بغض وكراهية.

وبهذا يتضح أن جواز الطلاق عند الضرورة لا يتعارض مع دعامة قيام الأسرة على الدوام.

 

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-17-2011, 07:42 PM
الصورة الرمزية زهرة الشمال
زهرة الشمال زهرة الشمال غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2008
المشاركات: 110
افتراضي

 


* تنظيم الحقوق والواجبات:

الأسرة أصغر وحدة اجتماعية، وهي تبدأ بالزوجين، ثم يكثر أفرادها بالإنجاب، ولكي تستقر حياة هذه الوحدة، ويسود هذه الحياة الترابط الحميم، كان لا بد من وضع دستور ينظم الحقوق والواجبات في الأسرة، وقد قرر هذا الدستور قوامة الرجال على النساء، قال الله تعالى: (الرجال قوّمون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم )(النساء: 34) وقال الله عز وجل : (ولهن مثل الذين عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة )(البقرة: 228)، وهي درجة القوامة والرئاسة البيتية الناشئة عن عهد الزوجية، وضرورة الاجتماع، وقد كلفها الرجل لأنه أقدر على القيام بها بسبب ما أودع الله فيه من قوة في البدن والعز والعمل.

إن هذه القوامة، ليست محاباة للرجل أو إلغاء لشخصية المرأة، وليست كذلك سبيلاً للاستبداد والسيطرة من قبل الرجل، إنها تعني المسؤولية، مسؤولية الرجل عن الأسرة من حيث الإنفاق والرعاية والحماية وحسن العشرة، وكان من أولويات حسن العشرة أن يتشاور الزوجان في كل ما يهم الأسرة، وأن يكون بينهما الاحترام المتبادل لكل الآراء مع مناقشتها في هدوء وسماحة نفس وسعة صدر.

وعلى المرأة في مقابل ما فرض الإسلام على الرجال من التزامات وواجبات أن تطيع زوجها فيما لا معصية فيه، وأن تنهض برسالتها المقدسة وهي الأمومة ورعاية البيت على أحسن وجه، ولهذا كان قرارها في البيت بمقتضى عقد الزواج حقاً للرجل عليها.

ويقتضي حق القوامة ومسؤولية الرجل عن الأسرة زجر المنحرفين، وتوجيه من تسول له نفسه إثماً ومنكراً إلى سبيل الرشاد والفلاح.

وفضلاً عن الحقوق والواجبات بين الزوجين، تعبر بعض آيات القرآن الكريم عن العلاقة الزوجية أروع تعبير، في مثل قوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) (البقرة:187)، فهي علاقة الامتزاج الكامل والستر المشترك، ولن تكون كذلك إلا إذا عبرة أصدق تعبير عن المودة والرحمة والإحسان ليسود جو الأسرة الوئام والحبور، قال تعالى: (ومن ءايته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (الروم: 21).

وكما نظم الإسلام العلاقة بين الزوجين، نظم هذه العلاقة بين الآباء والأبناء، فجعل على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم، والعدل بينهم في المعاملة والعطاء حتى لا ينزغ الشيطان بينهم بالفساد والأحقاد .. كذلك فرض على الأبناء أن يحسنوا إلى آبائهم وبخاصة عند امتداد العمر بهؤلاء، لأنهم يصبحون في حاجة إلى مزيد من الرعاية والحماية، قال الله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلآ إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهمآ أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهم وقل لهما قولاً كريماً(23) واخفض لهما جناح الذُّل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ) (الإسراء:23 ـ 24).

ولا شك في أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وفي توجيه الآباء نحو ما يجب عليهم قبل أبنائهم، وفي بيان طبيعة العلاقة الزوجية وأنها علاقة امتزاج كامل، وسكن مشترك، في أن هذا كله يدل على أن الأسرة المسلمة أسره متراحمة مترابطة، لا تعرف التفكك أو الشقاق، ما دامت معتصمة بذلك المنهج الذي يحمي الأسرة من غوائل الانحراف أو الصراع.

تلك أهم الملامح العامة للمنهج الإسلامي التي جعلت من الأسرة المسلمة أسرة متميزة بقيمها ومبادئها، أسرة تحكمها دائما خلال التعاطف والتراحم والإحسان، فإذا انحرفت عن ذلك المنهج عانت من التمزق والتفكك والعقوق، ولذا كانت ظاهرة التفكك الأسري المعاصرة تعبيراً عن الانحراف عن ذلك المنهج، بالإضافة إلى بعض العوامل المساعدة التي تضافرت فعملت على خلخلة كيان الأسرة المسلمة، وخططت منذ نحو قرن لغربتها وتغريبها وتوهين الروابط بين أفرادها.

وفيما يلي تفصيل لأهم الأسباب التي كانت من وراء هذا التفكك وآثاره.

ثانياً: أسباب التفكك الأسري:

أومأت في مستهل هذه الدراسة الموجزة إلى أن الأسرة المسلمة في العصر الحاضر تعاني من الضعف والتفكك، وأن الروابط التي ظلت تميز هذه الأسرة عبر تاريخها الطويل، وكذلك التقاليد الطيبة التي تضفي عليها هالة من التوقير والتقدير والعطف والحنان والمشاعر القلبية الصادقة، لم تعد كما كانت قوية وحية، ولها دورها وتأثيرها في حياة الأسرة.

وقد تتفاوت ظاهرة التفكك الأسري في المجتمعات المسلمة، من حيث حدتها ودرجة خطورتها، ولكن الذي لا مراء فيه أن هذه الظاهرة لا يكاد يخلو منها مجتمع مسلم في الوقت الحاضر.

وأما أسباب هذا التفكك فعديدة . . من أهمها ما يلي:

* عدم الالتزام بالضوابط الشرعية في الزواج:

لقد فرضت التقاليد والأعراف في بعض المجتمعات الإسلامية أنماطاً متنوعة في الزواج، تخالف بعض ما دعا إليه الإسلام حتى يثمر الزواج بين الرجل والمرأة ثمرته في السكن والمودة والرحمة، ويكون تعبيراً صادقاً عن الرغبة المشتركة في حياة زوجية سعيدة، من ذلك إجبار الفتى أو الفتاة على الاقتران بمن لا يأنس إليه ولا يرغب في العيش معه، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا الزواج، وبيّن أن من حق المرأة أن تعترض على زواجها إذا زوجها أبوها أو وليها دون رضاها، فقد روي أن بِكراً جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ((أن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته . . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر إليها إن شاءت أقرت الزواج وإن شاءت أبطلته، فقالت: فإني قد أجزت ما فعل أبي، ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء ))(1).

كذلك يدخل في باب عدم الالتزام بالضوابط الشرعية والخضوع للأعراف أن يتم الزواج دون الرؤية التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل العقد، وتفاجأ المرأة أو الرجل بعد العقد أو الدخول أنه تزوج بمن لا يسره أن ينظر إليه، أو يجد الراحة النفسية حين لقائه والحديث معه.

ومن صور الزواج الذي لا تلتزم بالآداب والضوابط الشرعية، ألا يرغب الرجل في المرأة لذاتها، وإنما يسعى إليها لغرض زائل ومتعة فانية كالحسب والمال والجمال،وقد أوردت سابقاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما روي عنه أن الاهتمام بأعراض الحياة الدنيا في الزواج مجلبة للشقاء والتعاسة.

إن مثل هذه الصورة وسواها مما يدور في فلكها وتحكمها الأعراف والتقاليد، أو الحرص على المتاع الزائل أكثر من الحرص على القيم الثابتة، لا تجعل من الزواج علاقة طاهرة مقدسة تبني الأسرة على مبادئ الدين والخلق والاختيار المطلق والرضا الكامل . . والأسرة التي لا تؤسس على هذه المبادئ لا تعرف الاستقرار والاستمرار، وتهب عليها غالباً رياح الشقاء والتمزق والتفرق.

* الأمية الدينية في فهم الحياة الزوجية:

إن عقد الزواج ينشئ بين الرجل والمرأة علاقة خاصة متميزة لا تتحقق بين الرجل وأقرب الناس إليه رحماً، كما لا يمكن أن تكون بين المرأة وأقرب الناس إليها أيضاً.

وقد اقتضى هذا العقد الذي يقوم على التأبيد أن تكون هناك حقوق وواجبات متبادلة بين الزوجين، وقوام كل هذه الحقوق والواجبات المادية والنفسية على السواء، والذي يتجاوز عن بعض الهنات ويتخذ المواقف العملية لكسب الود، والاستعلاء فوق مشاعر الكراهية والنفور أو الإعراض والنشوز.

ولكن عدم فهم الزوجين لطبيعة الحياة الزوجية وإدراكهما لما يجب عليهما، حفاظاً على هذه الحياة واستمرارها وعدم انتهائها إلا بوفاة أحد الزوجين أو كليهما، وأيضاً عدم فهم الزوجين لما يجب على كل منهما نحو الآخر من الحقوق والواجبات، وأن كلا منهما راع ومسؤول عن رعيته . . . إن عدم ذلك الفهم أو الأمية الدينية في فهم الحياة الزوجية يهدد الأسرة بالقلق الذي ينتهي بها إلى التفكك أو التفرق.

وتتجلى الأمية الدينية في موضوع الحياة الزوجية في صور متعددة، منها:

أ- إهمال الأم لرسالتها الأولى:

اقتضت حكمة الله في خلقه أن يقوم الاجتماع البشري على أساس من التقاء الزوجين، الذكر والأنثى، فلكل منهما خصائص ينفرد بها إلى جانب ما بينهما من الخصائص المشتركة، وتلك الخصائص يكمل بها أحدهما الآخر، وهو تكامل نفسي وبدني واجتماعي، وبدونه لا تقوم الحياة، وباستقلال أحد الزوجين بنفسه أوترك اختصاصه إلى الآخر يحدث الفساد وتتعطل الحياة (1).

ولخصائص الفطرة التي انفردت بها المرأة، كانت رسالتها الأولى في الحياة، والتي خلقت لها، هي أن تكون أماً وربة بيت، وهي لن تنهض بهذه الرسالة على أحسن وجه إلا إذا تفرغت لها، ولم يشغلها عنها أمر آخر.

والخطأ الفادح هو أن تهجر المرأة بيتها وتهمل رسالتها السامية، وتحرص على العمل خارج البيت(1)، معتقدة أن هذا العمل ضرورة لمشاركتها الإيجابية في الحياة، وذلك لأن عمل المرأة في البيت هو الأصل، وهو عمل له خطورته وأهميته، أما عملها خارج البيت فهو استثناء من هذا الأصل، والإسلام لا يمنعها منه ما دام لا يطغى على عملها في البيت أو يكون على حسابه.

إن الأمية الدينية كادت أن تلغي من عقل المرأة أهمية عملها في بيتها ورعايتها لزوجها وأولادها، وأصبح نزولها إلى ميادين الأعمال العامة وميادين الإنتاج ينطوي على كثير من الأضرار البالغة من الناحيتين الخلقية والاجتماعية، فهو يؤدي إلى إهمالها لشؤون بيتها وأولادها . . ويترتب على هذا الإهمال الاضطراب في حياة الأسرة، وتقويض لأهم مقوماتها ودعائمها، وإضعاف لروح الترابط العائلي(2).

ومما تجدر الإشارة إليه أن هناك تخطيطاً دولياً(3) يتغيا أن تتخلى المرأة عن رسالتها الأولى، بحجة حقها في مشاركة الرجل في معترك الحياة، وأن تخرج من بيتها إلى عمل لا يتفق مع فطرتها وطبيعتها، الأمر الذي نشأت عنه ظاهرة الحيرة والتمزق التي تواجه الأسرة المسلمة الآن.

وما زالت المؤتمرات الدولية وبعض الندوات التي تعقد في العالم الإسلامي، وقد تبنى القائمون عليها أهداف تلك المؤتمرات، تنشر مفاهيمها وتروج لأفكارها. والمرأة لأميتها الدينية، وعدم وعيها بأهمية وجودها في بيتها، تستقبل هذه الأفكار والمفاهيم دون فقه لأبعادها، أو معرفة بما تسعى إليه، وفي هذا خطر فادح على استقرار الأسرة، وسلامة كيانها . . فلهذه الأفكار الهدامة تأثيرها في العديد من النساء، وبخاصة بعض المعلمات اللاتي عشن مناخاً، دون نقد أو تمحيص، من قضايا تحرير المرأة وتأكيد استقلالها وحقها في العمل حتى ولو لم يرغب زوجها(1) أو وليها.

على أن إهمال الأم لرسالتها الأولى ليس مقصوراً على حرصها على العمل خارج البيت، وإنما قد يكون هذا الإهمال بسبب بعض التقاليد الضارة، كالإسراف في العلاقات الاجتماعية مثل الزيارات التي تمتد فترة طويلة دون فائدة من ورائها، فهي لقاءات تضيع الوقت في ثرثرة فارغة وأحاديث تافهة.

ويترتب على هذه الزيارات أن تهم المرأة في رعاية أبنائها، وتجعل من بيتها مجلساً للزيارات، وتنسى أنه مقر للراحة والسعادة للزوج والأولاد. كما تدع مهمة الرعاية والعناية بالبيت والزوج والأبناء إلى الخدم . . وهؤلاء أصبح لهم في الأسرة الخليجية حضور مستمر، جعل منهم ركائز أساسية لهذه الأسر، وكانوا من ثم من عوامل ضعف العلاقات بين أفراد الأسرة.

فالخادمة هي التي تقوم بما يطلبه الأطفال من الأم يطلبه الأبناء من الأب، أو ما يطلبه الأب من الزوجة من رعاية واهتمام.

ولوظيفة الخدم المهمة للأسرة، كاد يختفي غالباً الأسلوب المباشر بين أفرادها، وهذا الأسلوب هو الذي يعزز الرابطة العائلية بين هؤلاء الأفراد، وإذا ظل للخدم ذلك الدور اهتزت العلاقة بين أفراد الأسرة، وأصابها الوهن، وتعرضت للقطيعة أو التنافر(1).

ب- تقصير الرجل في القيام بواجباته:

إن واجب الرجل نحو أسرته ليس مقصوراً على الإنفاق المادي . . وقد ذكرت من قبل أن القوامة التي منحها الله للرجل تعني المسؤولية بمفهومها الشامل، ولكي يقوم الرجل بهذه المسؤولية كما ينبغي أن تكون كان عليه أن يكون له حضور بين أفراد أسرته، وأن يشعر الجميع بقربه منهم، وأنه معهم يشاركهم فيما يهتمون به ويتعرف على ما يرغبون فيه، ويصحبهم أحياناً خارج البيت في نزهات أو زيارات، ولا تشغله أعماله، مهما تكن، عن الرعاية التي فرضت عليه لكل أفراد أسرته، وليكن قدوته في ذلك الأب والزوج الكريم النبي محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

والرجل إذا قام بمسؤوليته كاملة حمى أسرته من أسباب التفرق والتقاطع، ونشأ، الأبناء نشأة سوية في ظل أب يغدق الحنان والعطف إلى جانب الشدة والقسوة إذا اقتضى الأمر ذلك.

ولكن إذا قصر الرجل في القيام بواجباته المادية والمعنوية، أو ظن أن مهمته لا تخرج عن توفير الحاجات الضرورية من طعام وشراب وما إليهما لأسرته، ثم يهمل بيته وشؤون أولاده لانشغاله بمجالسة أصدقائه وخروجه معهم في نزهات ورحلات متكررة، أو يسرف أو يبذر في الحفلات التي لا مبرر لها، أو يغيب عن أسرته شهراً أو عدة شهور بحجة عمله التجاري أو الدعوة إلى الله فإنه بذلك السلوك يعرض أسرته للضياع لأنها فقدت الراعي، ويسرت للذين يتلقفون الأبناء من أصدقاء السوء أن يزينوا لهم وسائل الفساد.

كما أن غياب الرجل كثيراً عن بيته يضاعف من خطورة الخدم، لأنهم يفتقدون الحارس الذي يأخذ على أيديهم أو يعاقبهم إذا انحرفوا.

إن عدم فهم الزوج لدرجة القوامة يجعله يقصر في واجباته نحو زوجته وأولاده، وقد يعتقد بمقتضى هذه القوامة أن له الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء دون أن يراجعه أحد من أفراد أسرته، وهذا السلوك من الزوج يرتد على الأسرة بالاضطراب وفتور العلاقة الزوجية، وقد يصل الأمر إلى الشك الذي يدمر هذه العلاقة.

وقد يكون تقصير الرجل في القيام بواجباته وغيابه كثيراً عن بيته مندوحة للزوجة في أن تثأر لنفسها من تصرفات زوجها، فتخرج كثيراً من بيتها، وتختلط مع الجارات والقريبات في لقاءات قد تسهم في تدمير العلاقة الزوجية، وزيادة حدة المشكلات الأسرية.

إن مسؤولية الرجل في الأسرة كمسؤولية ربان السفينة، عليه أن يقودها نحو شاطئ الأمان والسلامة ويجنبها الأخطار والأضرار، فإذا أهمل في مسؤوليته كان الغرق هو المصير المحتوم للسفينة . . وكذلك الأسرة، إذا لم يكن الرجل يقضاً وعلى وعي بما يجب عليه نحو أسرته فإنها تغرق في دوامة الخلل، ويكون مصيرها التفكك والفرقة.

(جـ) كثرة الطلاق لأوهى الأسباب:

وهذه ظاهرة خطيرة لها آثارها المدمرة للأبناء والأخلاق واستقرار الحياة بوجه عام، وهي في الواقع تعكس عدم الوعي الديني بما أباحه الله من التفريق بين الزوجين، وبعد استنفاد كل وسائل الإصلاح، وذلك لأن الناس يسارعون إلى الطلاق لأوهى الأسباب، ولا يأخذون أنفسهم بما أمر الله به من المعاشرة بالمعروف وعدم الاستجابة لمشاعر الكراهية والنفور، وتحري الوقت الصحيح لإيقاع الطلاق.

إن الأمية الدينية في أحكام الطلاق من أسباب كثرة وقوعه وبالتالي كانت من أسباب تفكك الأسرة وتمزقها.

على أن ظاهرة كثرة الطلاق مع هذه تعد ثمرة طبيعية للزواج الذي لم يستوف شروطه المشروعة، وأيضاً للأمية الدينية في فهم العلاقة الزوجية، وعدم وجود أهل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين عند خوف الشقاق.

(د) الفارق الكبير في السن:

من المسلم به أن الأصل جواز النكاح وصحته مهما يكن الاختلاف في السن بين الزوجين، إذا تحققت شروط صحة العقد وانتفت الموانع.

ومع هذا، يخضع الفارق الكبير في السن إلى بعض القواعد الشرعية، في أنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وقد بينت الدراسات الطبية والاجتماعية والنفسية أن الفارق الكبير في السن بين الزوجين يترتب عليه التباين الشديد في القدرة الجنسية.

ولا شك في أن الاهتمام بتربية الأولاد لن يكون كافياً إذا كان الزوج هرماً، فضلاً عن الفارق الكبير بين الزوجين سينعكس سلباً على معاملة الأبناء.

والفارق الكبير في السن يجعل بين الزوجين هوة عميقة نفسية واجتماعية وعقلية، مما يحول دون تفاهمهما وانسجامهما معاً في حياتهما الخاصة وفي تربية الأولاد، مما يؤثر على علاقتهما الزوجية، ويكون من عوامل الاضطراب والتفكك والحياة غير الطبيعية في الأسرة(1).

(هـ) البث الإعلامي:

ويشمل كل وسائل الاتصال المعاصرة من صحافة وإذاعة وخيالة وأقمار صناعية وفضائيات وشبكة الإنترنت . . . إلخ.

وأخطر هذه الوسائل الغزو الفضائي الذي يمثله ذلك الكم الهائل من القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، فهي وسيلة جديدة وسريعة لاختراق حدودنا وهويتنا وضمائرنا، إنها تسعى لاقتلاع القيم الإسلامية الأصيلة من جذورها، وإحلال القيم الغربية مكانها.

والقنوات الفضائية الغربية تملك من الإمكانات ووسائل الإبهار والجذب والمغريات ما يمكنها من الدخول إلى نفوس أكبر عدد من المشاهدين الذين يكونون عرضة لبث قيم وأفكار تشكل تهديداً كاسحاً للهوية والثقافة الإسلامية، فالأطفال والشباب أياً كانت أعمارهم يتعرضون عن طريق البث الفضائي الغربي لمؤثرات خطيرة تحدث هزة عنيفة في القيم والمفاهيم الإسلامية لديهم.

وتعد شبكة الإنترنت من أخطر الوسائل التي تفتق عنه الفكر الغربي لنشر ثقافته وعادته، وتقديم المعلومات التي كثيراً ما تفتقر إلى الصدق والموضوعية والأمانة العلمية، كما تنشر القيم والمفاهيم التي تؤثر على المسلم بصورة سلبية في ظل وجود منظمات إباحية تدعو إلى الانحلال والرذيلة.

ولأن القنوات الفضائية في الدول الإسلامية تجد نفسها في منافسة غير متكافئة مع القنوات الأجنبية، فإن هذه القنوات الأجنبية تبث سمومها دون أن نستطيع أن نغلق دونها النوافذ والأبواب، أو تقديم البديل الذي يحول دون تأثيرها.

وإذا عرفنا أن البث الإعلامي الغربي وبخاصة القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت تهتم بالأسرة المسلمة وبخاصة الأم لأن في إفسادها إفساد لكل أفراد الأسرة، أدركنا أن هذه القنوات تعد خطراً مدمراً للأسرة المسلمة التي تعتبر من أواخر الحصون الإسلامية التي لما تسقط بعد سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو القانوني.

لذلك لا يقدم البث الإعلامي الغربي إلا كل ما يؤدي إلى إغراق هذه الأسرة في الفلسفات والممارسات التي تردت فيها الأسرة في الحضارة والثقافة الغربية، حتى يتم إحكام السيطرة على هذا الحصن الأخير (1).

إن البث الإعلامي الغربي سلاح عصري مؤثر يقتحم البيت لتدمير القيم الإسلامية، وتمزيق الروابط الأسرية ودفع الجيل الصاعد إلى سبل الضياع والحياة التي لا تعرف طموحاً نحو معالي الأمور وإنما ترضى بسفاسفها.

(و) الظروف الاقتصادية:

ويراد بها ما يتعلق بالمستوى المادي للزوج، وبالنسبة لزوجته، كما يراد بها انخفاض دخل الأسرة، وذلك أن الفارق الاقتصادي بين الزوجين، كما يرى علماء الاجتماع، يوجد الصراعات داخل الأسرة، حيث سيرغب الطرف الأقوى في فرض سيطرته على الطرف الأقل من الناحية المادية.

إن المكانة الاقتصادية المتواضعة للزوج تجعل مكانته الاجتماعية والزوجية أقل في نظر زوجته، وقد روي عن الإمام أبي حنيفة في اعتبار الكفاءة المادية قوله: من كانت لها ولأبيها ثروة عظيمة، لا يكافؤها إلا القادر على المهر والنفقة، لأن الناس يتفاخرون بالغنى ويتعيرون بالفقر (1).

وقد استشارت فاطمة بنت قيس النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة معاوية رضي الله عنه لها: فقال: ((أما معاوية فصعلوك لا مال له ))(2).

إن كون الزوجة أغنى من الرجل قد يخل بممارسة الرجل لحق القوامة، وهذا قد يؤثر على بناء الأسرة واستقرارها، كما يؤثر على نظرة الأبناء لأبيهم وسلوكهم نحوه.

وإذا كان العامل الاقتصادي من أهم العوامل المؤثرة في بناء الأسرة أو في قدرتها على أداء وظائفها ومواجهة مشكلاتها، فإن قلة دخل الأسرة أو فقرها لا يتيح لها القدرة على إشباع الاحتياجات الأساسية لأفرادها، كما سيؤدي إلى انخفاض مستوى تعليم الأبناء، وإلى انخفاض مكانة الأسرة ومكانة أبنائها.

ولعل خطورة الفقر لا تكمن في تأثيراته السيئة على الأسرة وعلى قدرتها على إشباع احتياجاتها الأساسية والضرورية فحسب، ولكن تأثيره السيئ يمتد إلى شعور الأبناء بالحرمان وإحساسهم بالدونية، وفقدهم للثقة في أنفسهم، وبهذا يؤدي الفقر إلى العديد من المشكلات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية للأسرة، وفي مقدمة هذه المشكلات التفكك وعدم الاستقرار.

 

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 03-17-2011, 07:43 PM
الصورة الرمزية زهرة الشمال
زهرة الشمال زهرة الشمال غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2008
المشاركات: 110
افتراضي

 


ثالثاً: أثار التفكك الأسري:

ما دام التفكك الأسري حقيقة لا جدال فيها، وما دامت له أسبابه العديدة، وهذه الأسباب بعضها داخلي، وبعضها الآخر خارجي، وقد أوجزت الحديث عن أهمها آنفاً، فإن له آثاراً خطيرة على الأسرة والمجتمع:

* فالحياة الأسرية بين الزوجين يسودها القلق وعدم الاحترام المتبادل وكذلك عدم صيانة الأسرار الزوجية، لانهيار القيم الأخلاقية، وعدم إدراك الرجل والمرأة أن الحياة الزوجية شركة اجتماعية رأس مالها السكينة والود والألفة والرحمة والرعاية، وليست ميداناً للمبارزة والعناد أو السيطرة و التحكم.

* وقد يمثل التفكك بين الزوجين مظهراً سلبياً، يعبر عنه بامتناع كل منهما عن الحياة الزوجية الطبيعية، فهما متخاصمان لا يكلم أحدهما الآخر، أو أن الزوج يهجر فراش زوجته فلا يعاشرها بالمعروف، وإن كانا أمام الناس غير ذلك، وهذا الامتناع هو ما يعرف بالهجر أو الطلاق الصامت، أو فقدان لغة الحوار.

* وقد يتجاوز الأمر حدود السلبية ويتحول التفكك إلى عنف قد يصدر من الرجل ضد المرأة أو العكس. وليس العنف إلا ردة فعل لتصرفات الآخرين، فالرجل الذي يمارس العنف مع زوجته يثير لديها غريزة العنف . . وكذلك ممارسة العنف ضد الأبناء يثير لديهم غريزة العنف ضد الآباء مستقبلاً.

والعنف يبدأ بالكلمة النابية أو الاستهانة التي تحمل الآخر على التمرد ورد الإساءة بمثلها أو أشد منها، وقد يتطور الأمر إلى الضرب وإلحاق الأذى المادي الذي يبلغ أحياناً درجة الإقدام على ارتكاب جريمة القتل.

* ومن آثار التفكك الأسري المدمرة كثرة الطلاق دون سبب مشروع . . والطلاق يؤدي إلى التمزق العاطفي للأبناء بسبب الحيرة في الانحياز لأي طرف، الأب أم الأم، فضلاً عن فقدهم للشعور بالأمن نتيجة للاضطراب والتفرق الذي حل بالأسرة، ويؤثر هذا على تحصيلهم العلمي وتفوقهم الدراسي.

* والأطفال بعد الطلاق قد يستخدمون أحياناً كوسيلة للانتقام والإيذاء المتبادل بين الزوجين، فالأم تحرم الأب من رؤية أولاده، والأب يحاول أن يضم الأولاد إلى حضانته، ويعيش الأبناء تجربة نفسية قاسية تترك في وجدانهم انطباعاً سيئاً عن الجو الأسري والعلاقات الزوجية، وتدفع المرأة المطلقة ثمناً غالياً لطلاقها، فهي تُحرم من الإعالة والإشباع العاطفي، وتتعرض لقيود على تصرفاتها، وينظر إليها المجتمع نظرة فيها الكثير من التوجس، وهذا يجعلها تنظر إلى الحياة بمنظار قاتم، وقد تنجرف في تيار الانحلال إذا لم تجد زوجاً تعيش في كنفه.

* ولا يقتصر أثر التفكك الأسري على الأبناء على تخلفهم الدراسي وحسب، فالأبناء الذين ينشأون في أسرة مفككة لا تعرف بين أفرادها غير النفور والكراهية لا تكون نشأتهم طبيعية، وتترسب في أعماقهم مشاعر الكراهية نحو الحياة والأحياء، ويتمثل ذلك في الانحراف والتمرد على القيم والنظم والقوانين وإدمان الموبقات والمخدرات، فضلاً عن العزوف مستقبلاً عن الحياة الزوجية.

إن الأبناء في ظل هذا التفكك الأسري قد تمتد إليهم أيدي المجرمين، الذين يتخذون منهم وسيلة لنشر السموم، أو سرقة الآخرين، وتصبح الطفولة البريئة مباءً للانحراف، وتشهد محاكم الأحداث صوراً من الجرائم التي يرتكبها الأطفال الذين لم يعيشوا في أسرة مترابطة. كما أن هؤلاء الأطفال الذين فقدوا حياة الأسرة الآمنة المطمئنة تستهويهم غالباً حياة التمرد والإدمان، ويتحول هؤلاء في المستقبل إلى طاقة معطلة أو مدمرة، ويرتد هذا على المجتمع بخسارة فادحة تعوق نموه.

لقد أثبتت الدراسات أن ظواهر الإجرام والعنف وانحلال الأخلاق، وتوتر العلاقات بين الدول، وظهور القيادات التي كانت سبباً في الحروب المدمرة، وحدوث القلاقل والمجاعات المهلكة، مردها إلى أن الروابط النفسية في الأسر ضائعة، وأن أجيالاً تربت وترعرعت بعيداً عن مشاعر الحنان والمودة والرحمة فانتكست فطرتها، وانغمست في بؤر الفساد، واستحوذ عليها حب الانتقام وإراقة الدماء والاستهانة بكرامة الإنسان.

إن كل ما ينشأ في أسرة لا تعرف غير العواطف النبيلة والمشاعر الطيبة والتوجيه الحكيم والحنان الفطري، تكون نشأته سوية تكسبه قوة في الجسم والعقل، وتجعل منه في المستقبل طاقة مبدعة. ولهذا كان الأبناء الذين لا ينشأون في أسر، ولا يذوقون حنان الأبوين، ولا يتمتعون بما يتمتع به سواهم ممن شبوا في رعاية الوالدين، مهما توفر لهم دور الرعاية الاجتماعية وملاجئ اللقطاء أسباب الصحة الجسمية، يشكلون خطراً على المجتمعات.

ومن هنا يبدو واضحاً مدى خطورة تفكك الأسرة على الأبناء، إذ لا تقتصر آثاره على تخلفهم الدراسي والخلقي وعدم الإسهام في نهضة المجتمع وقوته، وإنما تمتد لتؤكد مشكلة خطيرة تتطلب الوقوف عندها، وهي ما يسمى بـ ((صراع الأجيال ))، التي ساعد على تفاقمها ـ بالإضافة إلى التفكك الأسري ـ اتساع الهوة بين الآباء والأبناء في ظل التطور الحضاري المادي المذهل . . كما أن لوسائل الاتصال المعاصرة دورها في هذه المشكلة، وكذلك القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، لما تقدمه من انفتاح كبير على عالم الغرب بسيئاته وحسناته.

وهذه المشكلة تعاني منها معظم الأسر في جميع المجتمعات البشرية، على تفاوت في درجتها وخطورتها بين مجتمع وآخر.

وإذا كان لكل زمان أعرافه ومفاهيمه، وإذا كان الأبناء قد خلقوا لعصر غير عصر الآباء، فإن هذا لا يعني التنكر الكامل للثوابت والقيم التي لا تعرف عصراً دون عصر ولا جيلاً دون جيل، ولكن مشكلة الصراع بين الأجيال ـ كما يطلق عليها ـ تمثل عدواناً على القيم الثابتة والعواطف الفطرية، كما تمثل تنكراً لفضل الآباء، واتهاماً لهم بالتخلف الحضاري والفكري، وأنهم يهتمون بعواطف وتقاليد اجتماعية لم يعد لها مكان في عصر المادة والاستقلال الشخصي.

وإذا كان للتفكك تلك الآثار على الزوجين والأبناء، فإن آثاره على المجتمع أخطر، فالأسرة قاعدة الحياة البشرية وقوام المجتمع، فإذا تعرضت للاضطراب والتصدع والصراع، ولم تقم برسالتها في التربية والتوجيه، فإنها بدلاً من أن تكون قوة دفع في المجتمع للخير والإصلاح، تتحول إلى قوة جذب للوراء، ولا يكون لها عطاء نافع، فيخسر المجتمع بذلك خسارة فادحة، خسارة أجيال تدمر ولا تعمر، أجيال تعوق مسيرة التنمية والنهضة.

الخلاصة:

إن قوة المجتمع ونهضته من قوة الأسرة ومتانة العلاقة بين أفرادها . . فإذا ساد التفكك الأسري، فإن المجتمع يفقد أهم رافد من روافد قوته واستقراره، ويعاني من الضعف والاضطراب، لأن التفكك الأسري يعطل الطاقات البشرية عن الإنتاج، ويدفعها إلى مجالات التخريب والتدمير ونشر الجريمة، وإشاعة الخوف بين الناس، وجعل العلاقات الاجتماعية بينهم أوهى من خيط العنكبوت، وكل هذا يعرقل مسيرة التطور والتنمية في المجتمع، ويقضي بالتخلف وفقد القوة الدافعة نحو التجديد والبناء.

من هنا، كانت حماية الأسرة من التفكك حماية للمجتمع من مشكلات شتى، تمتص الطاقات، وتشغل عن العطاء والتعمير، وتكون عامل هدم وتدمير.

 

رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
طريقة عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 المكتبة العلمية | المنتدى | دليل المواقع المقالات | ندوات ومؤتمرات | المجلات | دليل الخدمات | الصلب المشقوق وعيوب العمود الفقري | التوحد وطيف التوحد  | متلازمة داون | العوق الفكري | الشلل الدماغي | الصرع والتشنج | السمع والتخاطب | الاستشارات | صحة الوليد | صحة الطفل | أمراض الأطفال | سلوكيات الطفل | مشاكل النوم | الـربـو | الحساسية | أمراض الدم | التدخل المبكر | الشفة الارنبية وشق الحنك | السكري لدى الأطفال | فرط الحركة وقلة النشاط | التبول الليلي اللاإرادي | صعوبات التعلم | العوق الحركي | العوق البصري | الدمج التربوي | المتلازمات | الإرشاد الأسري | امراض الروماتيزم | الصلب المشقوق | القدم السكرية



الساعة الآن 06:50 AM.